* * *
“نادوا قائلين لقد اقترب ملكوت السماوات”
“عندما أرسل السيد المسيح رسله الأثني عشر، زودهم تعليماته، فأوصاهم قائلا:”نادوا باقتراب ملكوت السماوات، اشفوا المرضى، أقيموا الموتى، طهروا البرص، واطردوا الشياطين، مجانا أخذتم، مجانا أعطوا. وهذه كلها لا يأتيها الا من أوتي قوة من الله خاصة. وهذا ما آتى السيد المسيح تلاميذه أن يفعلوه، قبل أن يرسلهم للقيام بالرسالة. وهو قد أتى رأفة بالبشرية المتألمة، وأراد أن يكون رسله في كل عصر ومصر، على صورته ومثاله. فهو القدوة، وعليهم أن يقتدوا به.
ثم أوصاهم بالتزام مسلك محدد، وهو الزهد في شؤون الدنيا، فقال:”لا تقتنوا ذهبا، ولا فضة، ولا نحاسا في أكياسكم، وحتى لا زادا في الطريق، ولا ثوبين، ولا حذاء، ولا عصا لأن الفاعل يستحق طعامه. وهذا يعني أن على الرسول الا يهتم بمأكله، ومشربه، وملبسه، فان القوم الذين يتوجه اليهم بالرسالة، عليهم أن يؤمنوا له حاجاته اليومية. ذلك أن الرسالة يقتضي لها تجرد، وتعب، ونكران ذات، وزهد بأطايب الدنيا، وترهاتها. وعلى كل من المسيحيين أن يكون رسولا.
ترى هل عرف كل منا أن يكون رسولا في بيته، وحيه، وبلدته، ومكان عمله؟ الجواب يلقاه كل منا في أعماق ضميره.
وننتقل الى الكلام عن العائلة وما يعانيه الرجل والمرأة من مشاكل يستحيل على كل منهما تذليلها، ان لم يستعن بالله ورحمته.
وسنتحدث اليوم عما خص الله به كلا من الرجل والمرأة، وما نشأ من بدع حول دور كل منهما في العائلة والمجتمع، سائلين الله أن يلهمنا العمل دائما بارادته التي أظهرها لنا في تعاليمه وكائناته، وخاصة في الانسان الذي هو ملك الطبيعة.
1- ذكرا وأنثى خلقهما
خلق الله الانسان ذكرا وأنثى. ولكن هناك منظمات دولية كثيرة تقول بالنوع. وهذه لفظة لا تخلو من ابهام. وهي تدل على الدور الذي يقوم به كل من الرجال والنساء في المجتمع. وهذا الدور ينشأ عبر التاريخ، وهو نتاج التفاعل بين الطبيعة والثقافة، وهو ينشأ ويزول بنشوء وزوال ثقافة معينة أو أشخاص معينين. ولكن هناك من يقول مثلا ان المحبة الوالدية ليست مطبوعة في طبيعة الأم، وأن هذه العاطفة ليست من طبيعة المرأة، لكنها تنشأ في محيط ثقافي محدد. وفي أمكانها أن تزول اذا زالت هذه الثقافة. وهذه ثورة ثقافية جديدة. وهي تستبيح كل نوع من أنواع الانحرافات. وهناك من يريدون اعلان حق النوع، كما أعلنت حقوق الانسان. وهذه التفرقة الغريبة بين الجنس والنوع، بين الطبيعة والثقافة، تقضي على بعد الكائن البشري الشخصي، وتحجمه لتجعل منه فردا. وهذه العقيدة، عقيدة النوع تفضي الى اعادة النظر في مفهوم العائلة، وما لها من معنى اجتماعي في خدمة المجتمع.
وهذه العقيدة الخاصة بالنوع ظهرت بين سنة 1960 و1970 وقد أعطت الثقافة دورا أساسيا بحيث انها هي التي تحدد دور كل من الرجل والمرأة. فيما لفظة الجنس تعود الى الطبيعة، وهي تعني رجلا وامرأة، فيما لفظة نوع تعني رجلا وامرأة وكائنا حياديا. وهذه بدعة. ولكنها أدخلت على المفهوم العادي للرجل والمرأة ما أدى الى فروقات ظالمة في حق المرأة. وهذا ما أسهم في النظر الى المرأة نظرة مجحفة في حقها فجعلتها أدنى مقاما من الرجل، وهذا ما أبعدها سابقا عن المشاركة في القرارات العامة، المصيرية، وعن الانكباب على تحصيل العلوم العليا. وقد شعرت بأنها قد أسيء اليها، وتخلصت من القيود التي وضعها الرجال لها، وتعدت حدود المعقول عندما حاولت مساواة نفسها بالرجل، قأقلعت عن الزواج والأمومة، بمعزل عن اعتناق الحياة الرهبانبة. وهذا ما قاد الى انحرافات كثيرة غير مقبولة.
وهناك من يعملون على تقويض العائلة والمجتمع ببثهم هذه الأفكار الهدامة التي تهد العائلة وتربية الأولاد. وهم يأملون ببناء عالم جديد يكون على هواهم، خارجا عن المألوف من التقاليد والعادات. وهذه كلها تستند الى نظريات شيوعية ماركسية. وهناك إحدى النساء التي اعتنقت هذ العقيدة تقول: “لا تولد المرأة امرأة، لكنها تصبح ما هي، ولا يولد الرجل رجلا، لكنه يصبح ما هو”. والخلاصة في نظرهم أن الرجل هو رجل بفضل العوامل الاجتماعية، وكذلك القول عن النساء”.
2- لكل من الرجل والمرأة طبيعة مختلفة
ان الشخص البشري يعي نفسه منذ عهد الطفولة. والشباب، والتربية، والثقافة، والتجارب الشخصية لها دور في تكوين الشخصية البشرية. ويصعب التمييز تمييزا علميا بين الرجل والمرأة في ما هو من خصائص هذا أو تلك، لأن الطبيعة والثقافة مختلتطان منذ البدء. ولكن لأن اختبار كل منهما للعالم يختلف عن اختبار الآخر، فهما يقومان بالعمل إياه، انما هذا له أساسه في طبيعة كل منهما، بطريقة مختلفة. ويشعران شعورا مختلفا، ويصوغان مشاريع متباينة، ويقومان بردة فعل متغايرة.
وكل منهما يلبي حاجة الآخر. ويشعر أحدهما الآخر بأنهما مدعوان الى المشاركة بحيث يهب أحدهما الآخر ذاته، وفي هذا يجد كل منهما ما ينشده من سعادة، بحيث يشعر أن كلا منهما موجود من أجل الآخر. وهذا ما يحدو كلا منهما الى الخروج من ذاته ليلتقي الآخر، والله هو عينه، وهو اله محبة، هو من وضع خاتمه على الطبيعة البشرية. وهو قد أراد كلا من الناس لأجل ذاته، على ما يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: “عندما يصلي يسوع المسيح الى الآب ليكون “الجميع واحدا” ، يفتح آفاقا لن يتوصل اليها العقل. كما أنه يوحي بأن هناك شبها بين اتحاد الأقانيم الالهي، واتحاد أبناء الله في الحق والمحبة. وهذا الشبه يبين بوضوح أن الانسان، تلك الخليقة الفريدة، التي أرادها الله لذاتها، لا يس
تطيع أن يجد ذاته تماما، الا ببذل ذاته دون مقابل”. المرأة وحدها في امكانها أن تكون أما، والرجل وحده في امكانه أن يكون أبا. وهكذا تشرف المحبة المشتركة، التي وضعها الله في قلب الرجل والمرأة، عملية الخلق. والأبوة المشتركة تكشف عن مشاركة خاصة وعن ثقة كبرى بالله. والرجل والمرأة يدعوهما الله للعيش معا، وللعمل معا. هذه هي دعوتهما. و”قد خلق الله الانسان ذكرا وأنثى، على صورته ومثاله”. والانسان في امكانه أن يولد ليؤبد الصورة الالهية في عملية الخلق.
والأبوة والأمومة لا تقتصر على الناحية الجسدية. هناك أبوة وأمومة روحية تحدث عنهما البابا يوحنا بولس الثاني، فقال: ان تكوين المرأة وبنيتها الطبيعية، وعلاقتها بالحياة، تولد فيها استعدادات طبيعية خاصة. وهي في مرحلة الحبل تختبر قربا فريدا من كائن بشري جديد. ولا شك في أن طبيعتها تشجع على اللقاء بمن حولها من أناس. وان ما تتميز به المرأة يمكن ترجمته باحساس رهيف في حاجة الآخرين ومطالبهم، وفي قدرتها على اكتناه خصوماتهم الداخلية وتفهمها. وتتفرد بالانتباه الى حاجات الأخرين.
3- وهما مدعوان الى أن يقبل أحدهما الأخر
وهناك خاصة يتميز بها الرجل، وهي أنه يبقى، من طبعه، على مسافة كبرى من الحياة العملية. فهو يبقى، اذا صح التعبير، خارج عملية الحبل والولادة، ولا يشارك في ذلك الا عبر زوجته. وهذه المسافة توليه قدرا أكبر من الهدوء وسلامة الرؤيا التي لا بد منها لحماية الحياة، وتأمين مستقبلها، وهذا ما يجعل منه أبا، لا من حيث البعد الطبيعي وحسب، بل أيضا من حيث البعد الروحي. وهذا يفترض التحرر من الأنانية، والتقيد بشرعة المحبة، على ما يقول البابا يوحنا بولس الثاني. وهذا ما يجعل منه صديقا أمينا، وفيا، يوحي بالثقة. ولكن هذا يمكنه أيضا أن يحمله على اهمال الأمور العملية، اليومية، وهذا ما شجعت عليه في الماضي تربية احادية.
والرجل والمرأة مدعوان الى أن يقبل أحدهما الآخر في الأوساط الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وفي الحياة الخاصة، وأن يبنيا معا عالما قابلا للسكن. وهذا العالم يبلغ ملئه يوم يأتيه الجنسان، أي الرجل والمرأة، بطريقة متناغمة، بمساندتهما الخاصة.
وفي الكائن البشري وحدة عميقة بين البعد الجسدي والطبيعي والروحي، وترابط بين ما هو جسدي وثقافي. وطريقة التصرف لها أساسها في الطبيعة، ولا يمكن الابتعاد عنها ابتعادا كاملا. والوحدة والمساواة بين الرجل والمرأة تخفيان الفوارق. ولو كانت صفات الرجل والمرأة قابلة للتغيير، فلا يمكن تجاهلها كليا. فيبقى هناك تمايز طبيعي لا يمكن القضاء عليه، دون القضاء على الذات. فلا الرجل ولا المرأة يمكنهما الذهاب ضد طبيعتيهما دون أن يستجلبا عليهما الشقاء. والقطيعة الخاصة بعلم الأحياء لا تحرر الرجل ولا المرأة، لا بل انها تقودهما الى المرض.
وعلى الثقافة أن تأتي بجواب مقنع للطبيعة. ولا يمكنها أن تقف حاجزا في وجه جماعة تسعى الى التقدم. أجل ان هناك مظالم كثيرة في العالم تطاول المرأة. وهذه اللائحة الطويلة من الفوارق بين الرجل والمرأة لا أساس لها من الصحة في عالم علم الأحياء, بل لها أصول ثقافية، لا بد من القضاء عليها. ولا يمكن اعتبارها عصية على الدواء، مرتبطة بعلم الأحياء. ويؤمل أن تضطلع المرأة بأدوار جديدة تنسجم وما لها من كرامة. ورذل البابا يوحنا بولس الثاني رذلا واضحا القول بأن الأدوار والعلاقات بين الرجل والمرأة هي جامدة لا تقبل التغيير، وهو يحض الرجال على المشاركة في عملية تحرير المرأة. وانخراط المرأة في سوق العمل انما هو تقدم لا شك فيه، وهو يمثل تحديا جديدا لكلا الجنسين.
اذا كانت حياة الانسان في عائلته يقتضي لها جهد وتضحية لتستقيم، فكيف لها أن تستقيم اذا كانت في مجتمع تنافرت أطباع أفراده، وتفكيرهم، واتجاهاتهم، وغاياتهم. وبخاصة اذا كانت هناك شؤون سياسية يتوخى كل من ورائها ارضاء مطامعه، ورغباته.
جاء في الأمس رئيس الجامعة العربية وجال على جميع الفاعليات، وحاول تقريب وجهات النظر، ولكنه حاول عبثا، لأن من في يدهم مفتاح الحل والربط ليسوا في لبنان. وهذا هو أصل الداء.
ليتنا نعي أننا أصبحنا غير ما يجب أن نكون، وأن غيرنا لا يسعى في سبيل تحقيق مصلحتنا، ولن يقدمها على مصلحته الخاصة، مهما كان متجردا. لنسأل الله ان يفتح أعيننا على ما نحن فيه من ضلال”.