* * *
“رغبة الجسد موت، أما رغبة الروح فحياة وسلام”
يقول بولس الرسول ان الذين يتبعون رغبة الجسد يلقون الموت, اما الذين يتبعون رغبة الروح فيلقون الحياة والسلام, ومعلوم ان الجسد مائت, وأما الروح فخالدة. والجسد هو قوام الحياة في هذه الدنيا. وقد حبا الله كلا منا جسدا لنطوعه, ونقمع رغباته غير المشروعة, التي تتنافى وما اعطانا من وصايا وشرائع. ولذلك يقول بولس الرسول عينه: “أني اقمع جسدي واستعبده, مخافة أن اكون مرفوضا بعدما وعظت غيري”. ورغبة الجسد معروفة, على ما يقول السيد المسيح عينه, وهي مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة. تلك الاشياء التي تنجس الانسان. اما الاكل بأيد غير مغسولة, فلا تنجس الانسان”.وننتقل الى الحديث عن العائلة وما يصيبها من مآس من جراء المبادىء الهدامة التي تتسلل اليها فتفسد جوها. والعائلة هي قوام المجتمع السليم, الذي يمدها بما تحتاج اليه من وسائل لتبقى وتزدهر, ويزدهر بها ومعها المجتمع كله.
1- هناك انحرافات كثيرة تتعلق بالعائلة ظهرت في امكنة وبلدان عديدة, وان لم تكن شائعة عندنا. وبحجة الادعاء في حق الاختلاف ظهرت عدة مطالبات بالاعتراف بالزواج بين اشخاص من جنس واحد, وبحقهم في تبني الاولاد. وهذه بدعة ترذلها الكنيسة, ولا تعترف بها, لانها مفسدة للاخلاق, وتنافي الترتيب الذي وضعه الله للانسان منذ البدء. وحق الاختلاف يعني في اعتقادهم تشريع الزواجات المختلفة عن تلك التي تفضي الى تكوين عائلة اساسها الزواج بين رجل وامرأة. والذين يطالبون بذلك يرفضون الاعتراف بالاختلاف من حيث الجنس بين الرجل والمرأة. والمجتمع البشري هو المكان الذي يعيش فيه الناس المختلفو الجنس, وهو اختلاف معترف به, وتحميه الشرائع والقوانين. وما من مجتمع يمكنه ان يقوم على رفض هذا الاختلاف الاساسي بين الرجل والمرأة, وعلى مثل هذه الزواجات المنكرة القائمة على جنس واحد. وما من جماعة بشرية يمكنها ان تقوم حيث يرفض الاعتراف بالآخر المختلف جنسيا.ان الاعتراف بالاشخاص واحترامهم, وبما لهم من حقوق وعليهم من واجبات, لا يعني الاعتراف بما ينتج عنهم من انحرافات وشواذات. واذا كان يعود لكل من الناس ان يعيش على هواه, وكما يريد, فان الشريعة لا يمكنها ان تقر ما يشيع في عصر من العصور من عادات تحت تأثير وضغوط تأتي من هنا وهناك, وهناك مبادىء اساسية تبنى عليها المجتمعات لا يمكن تجاهلها. وهي تبقى على مدى التاريخ.
ان الاختلاف الجنسي هو في اساس العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة. وهي تتناول الناحية النفسية, والعاطفية, وما عداهما من نواح انسانية. والميل الجنسي جعله الله في كل من الرجل والمرأة لغاية شريفة وهي استمرار الجنس البشري على الارض, وذلك ضمن مبادىء وقواعد أوحى بها الله للانسان في كتبه المقدسة. والولد, منذ الصغر, وعبر التوجيهات السليمة, يتعلم كيف يتعاطى مع شخص من جنس آخر. والتنظيم الاجتماعي يقوم على الاشتراك بين الرجل والمرأة اللذين في امكانهما ان يكونا وحدهما عائلة. والنظرية القائلة بخلاف ذلك فهي نظرية مخطئة.
2- تكوين العائلة من رجل وامرأة
وتكوين عائلة من شخصين من جنس واحد, هو امر غير مقبول, ويخالف النظام الذي وضعه الله للانسان منذ البدء, والله الذي قال في كتابه: “ذكرا وانثى خلقهما”, وقال لهما “انميا واكثرا واملا الارض”.
هناك من يقولون ان الانسان يبدأ منذ عمر السنتين بتكوين فكرة عمن هو, فيعجب بنفسه, ويستشعر الفرق بينه وبين سواه من الناس, وبخاصة من الجنس الآخر. ويجب ان يكون الشخص واثقا من نفسه ليعرف انه مختلف عمن سواه من الناس. ويبدأ الولد بتثبيت ذاته ابتداء من عضلاته, وابراز صورة نافرة عن ذاته, وقدرته.والانحراف الجنسي لدى الولد يبدأ بأن يعيب على والده غيابه عنه, وضعفه, فيما هو يقدر والدته بقدر ما لا تقدر هي والده. وهناك احصاءات دلت على ان الشاذين جنسيا هم اقلية تقدر بواحد في المائة من السكان. والشذوذ الجنسي لا قيمة له اجتماعيا ولا غاية نهائية. والعائلة لا تقوم الا على رجل وامرأة. وعندما يفقد مجتمع معنى الفرق بين الجنسين, يفقد معنى حقيقة الوقائع. وكل المجتمعات قدرت كل التقدير العائلة المؤلفة من رجل وامرأة واولاد. واذا كان المجتمع, ينادي باسم الاخلاق, باحترام كل انسان, أيا يكن وضعه, فلا يمكنه ان يشجع اجتماعيا الاشخاص على الانغلاق في ما يسمى الشذوذ الجنسي. ولا يمكنه ايضا ان يجزىء الرباط الاجتماعي بحسب الميول الجنسية، وهؤلاء الشاذون جنسيا ناشطون لدى منظمة الامم المتحدة وجميع المنظمات الاوروبية بغية تحوير الانظمة المعمول بها، لاقرار ما هم عليه من شواذ.والملاحظ ان القلق والكآبة المرتبطان بالشذوذ، ليسا نتاج اي مجتمع بحجة ان هذا المجتمع يقوم على العلاقة بين الرجل والمرأة، وبالتالي على اختلاف الجنس. وفي هذه الحال، لا يعتبر الولد وسيلة لتجدد الاجيال، وتواصل العائلة، بل وسيلة للازدواجية الذاتية. لذلك على المجتمع ان يسهر على قبول الولد، وحمايته، وتربيته، وتثقيفه، في احوال مؤاتية بين رجل وامرأة.
3- السلطة التي تقر الشذوذ الجنسي ترتكب خطأ كبيرا
وينقلب عادة هذا الشذوذ الجنسي على المجتمع الذي يحاول اصحابه تغييره، والذي يعتبرونه مجتمعا ظالما لقيامه على شخصين مختلفين جنسيا. والسلطات العامة بتشريعها الشذوذ الجنسي تقترف خطأ كبيرا. وهذا عمى عقلي. والاقرار الشرعي بهذا الشذوذ الجنسي لا يخدم الانسجام الاجتماعي. وهذا الشذوذ غالبا ما يفضي الى الانتحار، عدا عن انه دليل على خلل اجتم
اعي يتناول القواعد الاجتماعية، وانكار مبدأ الاختلاف الجنسي، على انه قيمة تنظيمية للمجتمع يؤدي الى ارتكاب اعمال عنفية. وعندما يفقد احد المجتمعات معنى الاختلاف الجنسي، والواقع، والحقيقة يصوره الفساد. ولا يثبت هذا المجتمع ولا يستر الا بتنظيم العلاقة التي تقوم بين الرجل والمرأة.
اذا رفض المجتمع القيام بواجبه تجاه هؤلاء الاشخاص، اعتبر مقصرا، لا بل خائفا. وفقدان معنى الخير العام، وتصاعد العنف، والاجرام لدى الاولاد، واحتقار الشريعة الاخلاقية هذه امور لا تزال تتزايد، وهذا دليل على فقدان القواعد الاساسية مثل الفوارق بين الاجيال، والاختلاف الجنسي، والتزام الرجل والمرأة بتأسيس عائلة، هذا يفضي الى اضطراب العلاقات الاجتاعية خاصة بين الاجيال الطالعة التي لا بد ان تحاسب الاجيال الماضية التي تقدمتها. والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، لا تلغي الفوارق الطبيعية بينهما. والمجتمعات الغربية لها نظرة انتحارية الى الرباط الاجتماعي بايثارها الدوافع الشخصية على الوقائع الموضوعية العامة. وهي في تباهيها بما لها من قوة تجاهلت التوازن البيئي الذي بات يهدد الكرة الارضية. وباسم مبدأ طلب اللذة والاستمتاع، فهي تخرب ما بناه العقل، وهو بناء سريع العطب، على مدى قرون طويلة. وهي تفتح الاجيال الطالعة ابواب عالم غير متماسك.
العائلة هي سياج الوطن. اذا صلحت وتماسكت وسارت بمقتضى وصايا الله وتعاليم الكنيسة, صلحت المجتمعات, وتماسك الوطن على وجه العموم, وسادته الطمأنينة والسلام.
والمجتمع عندنا يشكو لا التفكك العائلي في مجمله, بل الضياع الذي اصاب المجموعات الوطنية. وكأن كل مجموعة او طائفة تريد ن تجعل لها وطنا خاصا بها, او هي تريد ان تنظم الوطن وشؤونه بمفردها, وبمعزل عما سواها من الطوائف, وهذا خطأ كبير.
وهذا ما تنبهت له الدولة الفرنسية التي تشدها الى لبنان روابط تقليدية, ثقافية وتاريخية, فدعت الى الاجتماع على ارضها نفرا مختارا من اللبنانيين من كل الفئات المتناحرة, لعلها تفلح في تقريب وجهات النظر فيما بينهم, وتعيد اليهم ما انقطع من سبل تواصل, لعلهم لا يصغون الا الى ضمائرهم, ومستقبل اجيالهم الطالعة, ويقبلون بعضهم على بعض ليصفوا النيات, ويشبكوا الايدي, ويباشروا باعادة البناء, بناء الارادات الطيبة, قبل ما تهدم من مؤسسات وطنية, ومبان أثرية تاريخية.
وان ما وصلنا اليه من سوء حال, من شأنه ان ينبهنا الى مستقبل اجيالنا الطالعة, ويحفزنا على ان نترك لهم وطنا يفاخرون به, وان يحملهم على التماس الرحمة الواسعة لنا من الله, لما اصطنعنا اليهم من جميل. هذا فضلا عما اصاب ويصيب الطبقة الكادحة عندنا من ضرر في معاشها اليومي, قد يحملها على الكفر بالوطن, وتراثه, وتاريخه, وعلى البحث عن وطن بديل, وهذا اسوأ ما تصاب به اوطان, وهو انعدام ثقة المواطنين بوطنهم, وبالمسؤولين عن مقدراته.
عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير
الديمان، 15 يوليو 2007 (zenit.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير التي ألقاها في الديمان.