العودة على محاضرة ريغينسبورغ (الجزء الأول): مقابلة مع الأب جايمس شال

أجرتها معه كاري غريس

Share this Entry

روما، 16 أكتوبر 2007 (Zenit.org) – يقول الأب جايمس شال إنه عندما نفسّر مضمون المحاضرة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر في ريغينسبورغ منذ أكثر من عام كمجرّد خطاب حول الإسلام، نخطئ في إصابة الهدف الأساسي منها.
والأب شال، وهو أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة جورجتاون، هو صاحب كتاب “محاضرة ريغينسبورغ” The Regensburg Lecture، منشورات دار مار أغسطينوس St. Augustine’s Press.
في الجزء الأول من هذه المقابلة التي أجرتها معه وكالة زينيت، يعلّق الأب شال على ملاحظات البابا حول مسألة الإسلام، ولكنه، وهذا هو الأهم، يغوص في النقطة الأساس من المحاضرة.

س: مضى حوالى عام على إلقاء البابا بندكتس السادس عشر محاضرته في جامعة ريغينسبورغ وما أثارت من احتجاجات دولية عارمة في بعض الأوساط المسلمة. هل كانت ردة فعل المسلمين هي ما دعاكم إلى تأليف هذا الكتاب أو ثمة سبب آخر؟

ج: في الواقع، لقد قرأتُ المحاضرة قبل أن تصدر ردة الفعل المسلمة التي استغرقت بعض الوقت قبل أن تتبلور. ولا أظنّها كانت ردة فعل “عفوية”.
أوّل ما قرأتُ المحاضرة بعد يوم تقريباً على صدورها إلى العلن، توجهتُ إلى طلاّبي وقلتُ لهم بكل صراحة إنها أهمّ محاضرة تُلقى في أيامنا هذه. فهي شاملة ووافية، كما أن لا مبالغة أو مغالاة فيها.
ولم يكن الإطار المسلم للمحاضرة سوى مقدّمة لما اتّضح أنه مدخل إلى أجندة البابا بندكتس السادس عشر بكاملها، أي الأرضية التي على أساسها نقارب كل الديانات والثقافات والفلسفات بإسم حقيقتها، وبإسم الحقيقة عموماً، بما فيها حقيقة الوحي.
إن نظرة البابا بندكتس السادس عشر ليست ضيّقة بتاتاً. فهو يدرك تماماً أنه، وبالإضافة إلى عالم الإسلام الذي غادره معظم المسيحيين أو اقتيدوا إلى خارجه، لا يشكل المسيحيون سوى أقلية قليلة في عوالم كبرى مثل العالم الصيني والهندوسي والبوذي وعالم الفلسفة المعاصرة.
والبابا يبحث عن طريقة تبيّن الأرضية المشتركة لهذه العوالم ولإرساء أرضية يمكن الإنطلاق منها لمقاربة هذه العوالم وفق أسس راسخة لا يمكن ضربها عرض الحائط.
لا شك في أن ردة الفعل المسلمة قد أسهمت في إعطاء هذه المحاضرة رواجاً عبر العالم، وهذا أمر كان الناشطون المسلمون ليندموا عليه لو كانوا يدركون ما يفعلون. فالعديد منهم أراد معاقبة بندكتس السادس عشر لما اعتبروه “فعل طيش” أو “عدم وعي وإدراك”. ولكنه لم يكن كذلك.
فقد تناول مسألة لفتت انتباه العالم من دون شك بسبب ردة الفعل المسلمة. وقد جاء طرح المسألة مختصَراً: “هل من المعقول أو هل يرضى الله أن تُنشَر ديانة ما بقوة العنف؟”. وهذا السؤال كان يطرحه تقريباً كل من كان يفكر في تداعيات “العمليات الإنتحارية” أو في الحروب المقدسة – الجهاد – التي جرى خوضها في تاريخ الإسلام، ومعظمها، وليس كلها بشكل حصري، كان موجهاً ضدّ مناطق مسيحية. إذاً المسألة تتعلق بالإختيار المتعمّد لوسائل العنف طريقةً لنشر ديانة، وتقديم تبرير عقائدي لهذا التصرف.
ولفت البابا إلى أنه في القرآن نفسه نجد جوابين مختلفين عن هذا السؤال: أحدهما يقول “لا” والآخر يقول “نعم”. والإضطراب الحالي الذي يصيب العالم سببه أولئك الذين في الإسلام يجيبون بـ”نعم” عن هذا السؤال.
وقد أظهر البابا جرأة منقطعة النظير في تعامله مع البلبلة التي أثارها خطابه. فهو لم يتراجع. بل اكتفى بالقول بأنه إذا ما شعر أحد بالإهانة والسوء لمجرد طرح السؤال، فهو آسف. ولكنه من غير المشروع أن يشعر المرء بـ”الإهانة” جرّاء سؤال جدّي، طُرح بشكل منهجي، بحثاً عن حقيقة موضوع معيّن في إطار أكاديمي.
ولكن أوّل ما لفت انتباهي في هذه المحاضرة كان همّ البابا الأكبر، أي أوروبا والعقلية العلمية الحديثة.
فأن نظنّ أن الإسلام كان هدفه الرئيسي يجعلنا نفوّت المسألة الأهم التي طرحتها المحاضرة، وهي التساؤل حول ما إذا كان السبب الأساس عينه الذي يبرّر العمليات الإنتحارية في العالم هو ما يبرّر من الناحية النظرية ومن خلال المبادئ الفلسفية ذاتها، انتشار ظاهرة القتل السافر للأبرياء.
ولا يجد الإسلام الجهادي حرجاً في الفكرة القائلة بأنه ينوي اجتياح العالم من أجل الله. وبالتالي، فهناك أمر بسيط للغاية بخصوص الإسلام يتمثل في سعيه المستمر منذ نشأته إلى إخضاع العالم برمّته لله. ونحن نعتبر ذلك تصرفاً متعصباً أو همجياً. ولكن بالنسبة إلى الكثير من المسلمين، فإنه أمر منطقي للغاية وبالفعل قاعدة سلوك. وما كان يثير قلق البابا كان أساس هذا الإدعاء.

س: في كتابك، تقارن زيارة البابا بندكتس السادس عشر بالزيارة الأولى التي أجراها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى وطنه الأم بولندا. فما هي أوجه الشبه بين الزيارتين؟

ج: إن زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الأولى إلى بولندا بيّنت قوة الحقيقة في وجه نظام إستبدادي. بل وأكثر.
فبالإضافة إلى إصرار الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان على أن يُظهر للسوفيات أنه لم يعد بوسعهم البقاء في صيغة التوازن العسكري، وبالإضافة إلى تدنّي مستوى الأخلاق والعزم عند المواطنين السوفيات، كان الوجود الشجاع والثابت للبابا البولندي هو بالفعل ترجمة لما أراد الشعب البولندي والعالم أجمع رؤيته ببساطة. فقد كان بمثابة إشارة إلى وجود أمر آخر في العالم عدا القوة السياسية. وقليلون جداً هم المفكرون الغربيون الذين توقعوا انهيار النظام السوفياتي.
وبحلول زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى ريغينسبورغ، كان تركيز العالم بأجمعه قد تحوّل إلى الإنتحاريين وإلى
الجهود الآيلة إلى لجم الإرهاب الإسلامي، إما بالحرب أو بالعمل في الكواليس أو العمل السري.
وقد تمثّل الردّ السياسي الأوّلي على أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في السعي إلى إيجاد الإرهابيين الذين فقدوا صوابهم وقاموا بهذا العمل الذي أصابنا بالذهول، ففجّروا على مرأى منا أضخم وأشهر مبنيين في العالم في إحدى أشهر المدن العالمية.
ومع الإنفجارات التي تلت ذلك في مدريد ولندن وبالي وباريس وغيرها من الأماكن، لم تعد الحرب فجأةً حرباً بين جيشين متناحرين وإنما، على غرار الهجمات الشهيرة لقراصنة ساحل المغرب، غارات مفاجئة من حيث لا ندري ضدّ أي هدف.
فنشأ نمط جديد من الحروب لا يمكن تفسيره فعلياً بالعبارات الإجتماعية أو الأخلاقية الغربية التقليدية. وبالتالي، فإننا أمام وضع يوحي، على حدّ إدراك قداسة البابا، بضرورة إجراء تحليل أكثر في العمق لما هو جارٍ اليوم.
والمهم هو أن ما وجد أنه السبب الجوهري لهذه الحالة لم يكن يُنسَب إلى الإسلام بشكل خاص، مع أنه كان كذلك أيضاً. فالفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، ناهيك عن الفلسفة الشرقية، كانت تتميز غالباً بجذور فكرية ومنطلقات مشتركة. لذلك فمن غير الصائب أن تُقرأ هذه المحاضرة باعتبارها محصورة بالإسلام لا غير. فالمحاضرة تدل بإصبعها إلى الحالة الأوروبية أكثر.
وتماماً كما أن زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الأولى إلى بولندا شكلت بصيص نور في عتمة اليأس من إمكانية التخلص من الماركسية، كذلك فإن زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى ريغينسبورغ كانت إضاءة مشرقة على مجمل تاريخ الفكر البشري أطلعتنا على ما كان فعلاً على المحك. فالسياسيون الفضلاء الذين يحاولون القيام بأمر حيال مسألة الإرهاب لن يتمكنوا من إنجاز الكثير ما لم يتعرفوا فعلياً على ما يتصدّون له.
فالواقع أن الإرهاب ليس فكرة مجرّدة غامضة المعالم. ومن هذا المنطلق، فإن السياسة تعتمد على العقل. ومحاضرة ريغينسبورغ، كما يذكّرنا سقراط في “غورجياس”، تتناول “الشؤون المدنية الحقيقية” real politics من خلال التساؤل عن سبب تصرف الناس على هذا النحو وعن الأسباب التي تحدوهم إلى ذلك.

س: لقد وصفت المحاضرة بأنها “من الدراسات الأساسية في زمن اليوم”. لمَ يكون ذلك؟

ج: من خصائص محاضرة ريغينسبورغ أنها أنارت فجأةً ميادين معرفية كاملة لأنها أدركت ماذا ينتمي إلى أين، وحقيقة المسائل، والرهانات لفهم زمننا من الناحية النظرية.
وقد أشرتُ كذلك إلى أن هذه المحاضرة تطرح مجدداً مسألة كانت شائعة في القرون الوسطى وهي مسألة توافق السيفين. أي إن ما يفتقر إليه النقاش المدني هو القابلية لفهم الرهانات ومجريات الأمور.
فإذا ما حصرنا المسألة بناحية العنف الذي تستخدمه مجموعة من المتعصبين، لن نتمكن من أن نفهم السبب الذي يمنع الحلول السياسية أو العسكرية، على أهميتها، كما هي الحال هنا، من الوصول إلى صلب المشكلة.
فذلك يفترض فهم ما يجري من وجهة نظر نظرية وعقائدية. وما الخلل الذي يصيب النظام السياسي اليوم سوى نتيجة اختلال نظام النفس، كما علّمنا أفلاطون. وليس من باب الصدفة أن يكون بندكتس قد استشهد بسقراط مرّتين في محاضرته وأسّس ما قاله على بُعد المنطق الذي يأتينا من الفلسفة اليونانية القديمة.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير