أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
أصحاب السيادة،
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!
لقد قبلت بفرح عظيم الدعوة لزيارة الجماعة المسيحية التي تعيش في مدينة نابولي التاريخية. أوجه تحيتي بشكل خاص إلى رئيس أساقفتكم، الكاردينال كرشينسيو سيبي، وأعبر له عن شكري الخاص للكلمات التي وجهها إلي باسمكم في مطلع هذه الذبيحة الإلهية. لقد أرسلتُه إلى جماعتكم لمعرفتي بغيرته الرسولية، ويسعدني أن أرى أنكم تقدرون مؤهلاته الفكرية والقلبية.
أحيي بعطف الأساقفة المعاونين وكهنة الأبرشية، كما وأحيي الرهبان والراهبات وسواهم من المكرسين، ومعلمي الدين والعلمانيين، خصوصًا الشباب الملتزمين في مختلف المبادرات الرعوية، والرسولية والاجتماعية.
أحيي السلطات المدنية والعسكرية التي تكرمنا بحضورها، بدءًا برئيس مجلس الوزراء، ومحافظ نابولي، ورئيسي المقاطعة والمنطقة.
أوجه تحية قلبية، إليكم جميعًا المجتمعين في هذه الساحة أمام بازيليك القديس فرنسيس من باولا الضخمة، والذي نحتفل اليوم بالمئوية الخامسة لموته، وأوسع التحية لتشمل كل الذين يتابعوننا عبر الراديو والتلفزيون، خصوصًا الجماعات المحصنة، والمسنين، والمرضى المتواجدين في المستشفيات، والمساجين، وجميع الذين لن أستطيع اللقاء بهم خلال إقامتي القصيرة هذه في نابولي. بكلمة، أود أن أحيي عائلة المؤمنين برمتها، وجميع سكان نابولي: أنا في وسطكم أيها الأصدقاء الأعزاء، لكي أكسر معكم كلمة وخبز الحياة.
عبر التأمل قراءات هذا الأحد، وعبر التفكير بواقع نابولي، تأثرت كثيرًا كون كلمة الله اليوم تتضمن موضوع الصلاة، لا بل “ضرورة الصلاة دومًا ودون كلل”، كما يقول الإنجيل (راجع لو 18، 1).
لأول وهلة، تبدو هذه الرسالة قليلة الارتباط، وقليلة التأثير في واقع اجتماعي يعاني الكثير من المشاكل مثل مجتمعكم. ولكن عبر التفكير، نفهم أن هذه الكلمة تتضمن رسالة هي بالطبع بعكس التيار، تهدف إلى تنوير الضمير في العمق في كنيستكم وفي مدينتكم هذه.
ألخص هذه الرسالة بالشكل الآتي: القوة التي تغير العالم وتحوله إلى ملكوت الله، بسكون ودون ضجيج، هي الإيمان – والتعبير عن الإيمان هو الصلاة. عندما يتشرب الإيمان من محبة الله، الذي يتم التعرف عليه كآب صالح وعادل، تصبح الصلاة ثابتة، ملحة، تصبح أنين روح، صرخة نفس تخترق قلب الله. بهذا الشكل تصبح الصلاة أكبر قوة محولة في العالم.
أمام واقع اجتماعي صعب ومعقد، كما هي بكل تأكيد حالة واقعكم، يجب توطيد الرجاء، الذي يرتكز على الإيمان والذي يتم التعبير عنه عبر الصلاة التي لا تكلّ. الصلاة هي ما يُبقي شعلة الإيمان مضاءة. يسأل يسوع: “عندما يأتي ابن الإنسان، هل سيجد الإيمان على الأرض؟” (لو 18، 8). ماذا سيكون جوابنا على هذا السؤال المقلق؟ اليوم بالذات، نريد أن نردد سوية بشجاعة متواضعة: يا رب، فليجدنا مجيئك في وسطنا في احتفال الأحد هذا، مجتمعين ومصابيح إيماننا مشتعلة. نحن نؤمن ونثق بك! قوّ إيماننا!
تقدم لنا القراءات الكتابية التي أصغينا إليها بعض النماذج التي يجب أن نستلهمها في إعلان إيماننا هذا. هي شخصية الأرملة التي نلتقي بها في المثل الإنجيلي، وشخصية موسى الذي يخبرنا عنه كتاب الخروج. تجعلنا أرملة الإنجيل (راجع لو 18، 1- 8) نفكر بـ “الصغار”، بالآخِرين، وبالكثير من الأشخاص المستقيمين والبسطاء أيضًا، الذين يتألمون بسبب الظلم، ويشعرون أنهم عزّل في وجه استمرار حالة الانحطاط الاجتماعي، فيتعرضون بهذا الشكل لتجربة الاستسلام.
إلى هؤلاء الأشخاص يقول يسوع: تأملوا بهذه الأرملة الفقيرة، كيف أنها تصر بحزم وفي النهاية تنال إصغاء قاضٍ ظالم! كيف يمكنكم أن تفكروا أن أبيكم السماوي، الصالح والأمين، الذي يريد فقط خير أبنائه، لا يعدل تجاهكم في وقته؟ الإيمان يؤكد لنا أن الله يصغي إلى صلاتنا ويستجيبنا في الوقت المناسب، حتى ولو يبدو وكأن الخبرة اليومية تكذّب هذه القناعة.
بالواقع، أمام بعض الأخبار، أو أمام الكثير من المضايق الحياتية التي لا تنقلها حتى الجرائد، يرتفع من القلب بشكل عفوي، دعاء البني القديم: “إلامَ يا رَبُّ أَستَغيثُ ولا تَسمعَ أَصرُخُ إِليكَ مِنَ العُنفِ ولا تخَلِّص؟” (حبقوق 1، 2).
الجواب على هذا الدعاء الصادر من القلب هو واحد: الله لا يستطيع أن يغير الأشياء دون توبتنا، وتوبتنا الحقيقية تبدأ من “صرخة” النفس، التي تطلب الغفران والخلاص. الصلاة المسيحية إذًا ليست تعبيرًا عن الجبرية (القضاء والقدر) أو عن الجمود، بل هي عكس الهروب من الواقع، والحميمية المنطوية على التعزيات: هي قوة رجاء والتعبير الأكبر عن الإيمان بقوة الله التي هي محبة والتي لا تتخلى عنا.
الصلاة التي علمها يسوع، والتي وصلت أوجها في الجلجلة، تتصف بـ “النزاع” أي بالصراع، لأنها تقف بلا مراوغة في صف الرب لمحاربة الظلم والانتصار على الشر بالخير؛ هي سلاح الصغار وفقراء الروح، الذين يرفضون مختلف أشكال العنف. بل يجيبون عليها باللاعنف الإنجيلي، ويشهدون بالتالي لحقيقة الحب الذي هو أقوى من الكره ومن الموت.
هذا الأمر يظهر أيضًا في القراءة الأولى، حيث يتم سرد الخبر الشهير للمعركة بين الإسرائيليين وعماليق (راجع خر 17، 8- 13أ). الصلاة التي رفعت بإيمان إلى الإله الحق هي التي حددت مصير الصراع الحاد. بينما كان يشوع ورجاله يواجهون الخصوم في الميدان، كان موسى على قمة الجبل رافعًا يديه، في وضع
ية رجل يصلي. هاتان اليدان المرفوعتان أكدتا انتصار إسرائيل. كان الله مع شعبه، كان يريد انتصاره، ولكنه كان يشرط تدخله بيدي موسى المرفوعتين. يبدو الأمر غير معقول، ولكنه كذلك: الله يحتاج إلى أيدي خادمه المرفوعتين!
يدا موسى المرفوعتان تجعلاننا نفكر بيدي يسوع على الصليب: ذراعان ممدودان ومسمرتان، من خلالهما حاز المخلص على النصر في المعركة المصيرية ضد العدو الجهنمي. معركته ويداه المرفوعتان نحو الآب والممدودتان فوق العالم تطلبان أذرعًا أخرى، قلوبًا أخرى تتابع تقدمة الذات بحب يسوع نفسه، حتى نهاية العالم.
أتوجه بشكل خاص إليكم، يا رعاة الكنسية التي في نابولي، وأتبنى كلمات القديس بولس التي يوجهها إلى تيموثاوس والتي سمعناها في القراءة الثانية: اثبتوا في ما تعلمتم وكونوا منه على يقين. أعلنوا الكلمة، أصروا في كل وقت، مناسب أو غير مناسب، وحضوا، ووبخوا وعظوا بكل أناة وتعليم (راجع 2 تيم 3، 14. 16؛ 4، 2).
ومثل موسى على الجبل، ثابروا على الصلاة من أجل المؤمنين الموكلين إلى عنايتكم الرعوية ومعهم، لكيما تستطيعون سوية أن تواجهوا كل يوم الصراع الحسن لأجل الإنجيل.
والآن، وقد تنورنا داخليًا بكلمة الله، فلنعد إلى النظر إلى واقع مدينتكم، التي لا تفتقر إلى القوى السليمة، والأناس الطيبين، المحضرة ثقافيًا والتي تملك حسًا عائليًا حيًا. ولكن بالنسبة للكثيرين، ليس العيش بالأمر السهل: هناك الكثير من حالات الفقر، ومن نقص المأوى، والبطالة ونقص في التوظيف، إضافة إلى النقص في الآفاق المستقبلية. وهناك أيضًا ظاهرة العنف المحزنة. لا يتوقف الأمر على عدد جرائم “الكامورا” المؤسفة وحسب، بل أيضًا على العنف الذي يصبح للأسف عقلية شائعة، متغلغلة في مختلف طيات العيش الاجتماعي، في الأحياء التاريخية في الوسط، وفي الضواحي الجديدة والمجهولة، مع خطر أن تجذب بشكل خاص الشباب، التي تنمو في بيئة يكثر فيها عدم الشرعية وثقافة تدبير الحال.
كم هو مهم مضاعفة الجهود من أجل استراتيجية وقاية، تهدف إلى المدرسة، إلى العمل، وإلى مساعدة الشباب على تدبير وقت الفراغ. من الضروري تدخلٌ يشمل الجميع في الحرب ضد كل أنواع العنف، انطلاقًا من تنشئة الضمائر وتحويل العقليات، والمواقف، والتصرفات في كل الأيام.
أوجه هذا النداء اليوم لكل ذوي الإرادة الصالحة رجالاً ونساء، بينما يعقد في نابولي الآن لقاء القادة الدينيين من أجل السلام بعنوان: من أجل عالم دون عنف – أديان وثقافات في حوار”.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، البابا الحبيب يوحنا بولس الثاني، زار نابولي للمرة الأولى عام 1979: وكان ذلك نهار الأحد، 21 تشرين الأول، مثل اليوم! المرة الثانية جاء في نوفمبر 1990: في زيارة شجعت ولادة الرجاء. رسالة الكنيسة هي تنمية الإيمان والرجاء في الشعب المسيحي. وهذا الأمر يقوم به بغيرة رسولية رئيس أساقفتكم أيضًا، الذي كتب مؤخرًا رسالة رعوية ذات عنوان لافت: “الدم والرجاء”.
أجل، الرجاء الحقيقي يولد فقط من دم المسيح ومن الدم الذي يسفك لأجله. هناك الدم الذي هو علامة موت؛ ولكن هناك أيضًا الدم الذي يعبر عن الحب والحياة: دم المسيح والشهداء، مثل دم شفيعكم القديس جنّارو، وهو ينبوع حياة جديدة.
أود أن أختم متبنيًا إحدى التعابير التي نصادفها في رسالة رئيس أساقفتكم: “ربما بذر الرجاء هو الأصغر، ولكنه يستطيع أن يعطي الحياة لشجرة شامخة وأن يحمل الكثير من الثمار”. إن هذا البذر يوجد في نابولي، وهو يعمل بالرغم من المشاكل والمصاعب.
فلنصل إلى الرب، لكي ينمي في الجماعة المسيحية إيمانًا صادقًا ورجاءً وطيدًا، يستطيع أن يواجه بشكل فعال الإحباط والعنف. تحتاج نابولي بكل تأكيد لتدخلات سياسية مناسبة، ولكن قبل ذلك، تحتاج إلى تجدد روحي عميق؛ تحتاج إلى مؤمنين يضعون ثقتهم كلها بالله، وبعونه يلتزمون بنشر قيم الإنجيل في المجتمع. فلنطلب هذا العون إلى مريم، وإلى شفعائكم القديسين، وخصوصًا إلى القديس جنارو. آمين.
ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)
حقوق الطبع محفوظة: دار النشر الفاتيكانية – 2007