الفاتيكان، 1 يناير 2008 (zenit.org). – ننشر في ما يلي رسالة البابا بندكتس السادس عشر لمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي الأول من يناير 2008، بعنوان “الأسرة البشرية، جماعة سلام”.
رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر
بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي
الأول من يناير 2008
الأسرة البشرية، جماعة سلام
1- مع مطلع السنة الجديدة أود أن أوجه أمنية سلام صادقة ورسالة رجاء قلبية إلى جميع الرجال والنساء في العالم، طارحاً للتأمل المشترك موضوعاً عزيزاً على قلبي افتتحتُ به هذه الرسالة بعنوان “الأسرة البشرية، جماعة سلام”. في الواقع، إن أول تجسيد للشراكة بين الأشخاص يتمثل في الحب الذي يولد بين رجل وامرأة يقرران الاتحاد برابط دائم ليبنيا معاً أسرةً جديدة. ولكن شعوب الأرض مدعوة بدورها إلى إقامة علاقات تضامن وتعاون في ما بينها، كما يجدربأعضاء الأسرة البشرية الواحدة واستناداً إلى ما جاء في نص المجمع الفاتيكاني الثاني من أن: “كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلها (راجع أعمال الرسل 17/26) ولهم غاية وحيدة أخيرة وهي الله”.
الأسرة والمجتمع والسلام
2- تشكل الأسرة الطبيعية، بوصفها شركة عميقة في الحياة والحب قوامها الزواج بين الرجل والمرأة، “الحيّز الأول لأنسنة الشخص والمجتمع”، و”مهد الحياة والحب“. لذلك، فإن الأسرة تسمّى عن حق بالمجتمع الطبيعي الأول، باعتبارها “مؤسسة إلهية تشكل ركيزة لحياة الأشخاص ونموذجاً لكل نظام اجتماعي”.
3- بالفعل، إن الحياة الأسرية السليمة تتيح اختبار مكونات أساسية للسلام، من عدالة ومحبة بين الإخوة، والسلطة التي يجسدها الوالدان، والرعاية المحبة لأعضاء الأسرة الأكثر ضعفاً بسبب صغر سنّهم أو مرضهم أو تقدمهم في السن، والمساعدة المتبادلة إزاء صعوبات الحياة، والجهوزية لاستقبال الآخر ولمسامحته عندما تدعو الحاجة. لذا، فإن الأسرة هي المربية الأولى على السلام التي لا بديل لها. فلا عجب إذاً أن يُعتبر العنف مرفوضاً بشكل قاطع، خصوصاً متى ارتُكب ضمن الأسرة الواحدة. وبالتالي، فعندما نؤكد على أن الأسرة هي “الوحدة الأساسية والحيوية في المجتمع”، فإننا نصرّح بأمر أساسي. وتشكل الأسرة كذلك عماداً للمجتمع للسبب التالي: وهو أنها تسمح بعيش خبرات حاسمة من السلام. ما يعني أنه لا يمكن للمجتمع الدولي الإستغناء عن الخدمة التي تؤديها الأسرة. فهل يجد الكائن البشري في طور النمو ليتعلم تذوّق “النكهة” الحقيقية للسلام أفضل من هذا “العشّ” الأصلي الذي أعدّته الطبيعة له؟ إن القاموس الأُسَري قاموس سلام؛ وفيه يجب أن ننهل باستمرار لكي لا نفقد أسلوب السلام ومصطلحاته. ففي ظل تطور اللغات الحاصل، لا يجوز أن يُحرم المجتمع من إمكانية اللجوء إلى “قواعد اللغة” هذه التي يتعلمها كل طفل من حركات أمه وأبيه ونظراتهما، حتى قبل أن يتعلمها من الكلمات التي ينطقان بها.
4- ولما كان واجب الأسرة يقضي بتنشئة أفرادها، فهي تتمتع بحقوق خاصة بها. والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يشكل أحد إنجازات الحضارة القانونية ذات القيمة العالمية الحقة يؤكد هو نفسه على أن “الأسرة هي الوحدة الطبيعية والأساسية للمجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة”. والكرسي الرسولي أراد، من جهته، أن يعترف للأسرة بكرامة قانونية خاصة من خلال إصداره شرعة حقوق العائلة التي نقرأ في مقدمتها: “إن حقوق الشخص، ومع أنه يُشار إليها بوصفها حقوقاً للأفراد، لها بعدٌ إجتماعي أصيل يجد في الأسرة ترجمته المتأصلة والحيوية”. وتشكل الحقوق الملحوظة في هذه الشرعة تعبيراً وتفسيراً للقانون الطبيعي المنطبع في قلب الكائن البشري والذي ينكشف له بواسطة المنطق. أما نكران حقوق الأسرة أو الحدّ منها، فيعتّم الحقيقة حول الإنسان ويعرّض أسس السلام نفسها للخطر.
5- بالتالي، من يعمد إلى إعاقة مؤسسة الأسرة، ولو عن غير قصد، إنما يضعف أسس السلام في المجتمع بكامله، على الصعيدين المحلي والدولي، لأنه بذلك يقوّض بطبيعة الأمر “وكالة” السلام الرئيسية. ونصل هنا إلى نقطة تستحق منا التوقف عندها وإيلاءها اهتماماً خاصاً: فكل ما يساهم في إضعاف الأسرة القائمة على الزواج بين رجل وامرأة، وما يلجم، سواء مباشرةً أو بشكل غير مباشر، استعدادها لاستقبال حياة جديدة بمسؤولية، وما يعيق حقها في أن تكون المسؤول الأول عن تربية الأولاد وتنشئتهم، ما هو إلا عائق موضوعي يُزرَع على درب السلام. فالأسرة بحاجة إلى المسكن والعمل وإلى اعتراف عادل بالدور المنزلي للوالدين وإلى تأمين دراسة الأولاد والرعاية الصحية الأساسية للجميع. وعندما يتلكأ المجتمع والسياسة عن مساعدة الأسرة في هذه المجالات، يحرمان نفسهما من مورد أساسي في خدمة السلام. وعلى وسائل التواصل الإجتماعي، بشكل خاص، وبما لها من قدرات تربوية، مسؤولية خاصة لتعزيز احترام الأسرة وتجسيد تطلعاتها وحقوقها، وإظهار بهائها للعيان.
البشرية أسرة كبيرة
6- إن المجتمع الإجتماعي مدعوّ أيضاً إلى استلهام القيم التي يستند إليها المجتمع الأسري إذا ما أراد العيش بسلام. ويصحّ ذلك بالنسبة إلى المجتمعات المحلية والوطنية على السواء، وبدرجة أكبر بالنسبة إلى مجموعة الشعوب نفسها، تلك ال
أسرة البشرية التي تعيش في ذلك المنزل المشترك الذي تمثله الأرض. بيد أنه لا يجوز أن ننسى، إنطلاقاً من وجهة النظر هذه، أن الأسرة هي وليدة كلمة “نعم” مسؤولة ونهائية يقولها الرجل والمرأة، وأنها تتنفس وتحيا في هذا الـ”نعم” الواعي للأطفال الذين يصبحون تدريجياً جزءاً منها. فالمجتمع الأسري بحاجة إلى موافقة سخية من كل أعضائه كي ينمو ويزدهر. ولا بدّ أيضاً لهذا الوعي من أن يؤول قناعة يتشاركها كل من هم مدعوون إلى تكوين الأسرة البشرية المشتركة. فعلى كل منا أن يتعلم كيف يقول “نعم” للدعوة التي وضعها الله في طبيعتنا الخاصة. فنحن لا نعيش جنباً إلى جنب من قبيل الصدفة؛ بل نحن نسلك جميعاً درباً واحداً كبشر وبالتالي كإخوة وأخوات. وعليه، فمن الضروري أن يلتزم كل منا بعيش حياته الخاصة بمسؤولية تجاه الله، معترفاً بأنه مصدر وجوده ووجود الآخر. فقط عبر الارتقاء إلى هذا المبدأ السامي يمكن إدراك القيمة المطلقة لكل شخص بشري وطرح الشروط اللازمة من أجل بناء بشرية مسالمة. وفي غياب هذا الأساس المتسامي، يستحيل المجتمع تجمعاً من الجيران، لا جماعة إخوة وأخوات مدعوة إلى تكوين أسرة كبيرة.
الأسرة والجماعة البشرية والبيئة
7- تحتاج الأسرة إلى منزل، إلى مكان على حجمها تُنسَج في كنفه العلاقات بين أبنائها. وهذا المنزل بالنسبة إلى الأسرة البشرية هو الأرض، ذاك الحيّز الذي أعطاناه الله الخالق لنسكنه بإبداع ومسؤولية. علينا أن نعتني بالبيئة: فهي أُوكلت للإنسان كيما يحافظ عليها ويحميها بحرية مسؤولة، واضعاً دائماً نصب عينيه معياراً للتقييم هو الخير العام. وللكائن البشري بطبيعة الحال قيمة تفوق أي خليقة أخرى قيمةً. فاحترام البيئة لا يعني أننا نعتبر الطبيعة المادية أو الحيوانية أهم من الإنسان. بل يعني ذلك بالأحرى أنه لا يجوز للفرد أن يتعاطى معها بأنانية مسخّراًً إياها بشكل كامل لخدمة مصالحه الخاصة، إذ يحق للأجيال القادمة على حدّ سواء أن تفيد من خيور الخليقة، معتمدةً في ذلك على مبدأ الحرية المسؤولة عينه الذي نطالب به لأنفسنا اليوم. كذلك، لا يجوز أن ننسى الفقراء، أولئك الذين يُحرمون في العديد من الحالات من نصيبهم من خيرات الخلق المخصصة أساساً للمنفعة العامة. إن البشرية اليوم قلقة بشأن مستقبل التوازن البيئي. وفي هذا الصدد، لا بدّ من أن تجرى التقييمات بتعقّل، في إطار حوار بين أشخاص من أهل الخبرة والحكمة، من دون تسرّع أيديولوجي نحو استنتاجات متهوّرة وخصوصاً من خلال البحث معاً عن نموذج للتنمية المستدامة يضمن رفاه الجميع في احترام للتوازنات البيئية. وإن كان لحماية البيئة أكلاف، فلا بدّ من أن توزَّع بطريقة عادلة، مع مراعاة مستوى التباين في التنمية المسجّلة في البلدان المختلفة والتضامن مع الأجيال المستقبلية. والعمل بتعقل لا يعني عدم تحمّل المسؤوليات المترتبة علينا وإرجاء اتخاذ القرارات، بل يعني بالأحرى الإلتزام باتخاذ هذه القرارات سويّةً، بعد دراسة الطريق الذي يتعين سلوكه دراسةً مسؤولة، بهدف توطيد العهد القائم بين الكائن البشري والبيئة والذي يجب أن يعكس المحبة الخالقة لدى الله الذي منه أتينا وإليه نمضي.
8- من البديهي في هذا المجال أن “نتعاطى” مع الأرض على أنها “منزلنا المشترك”، وأن يستقرّ خيارنا، كيما تكون في خدمة الجميع، ومتى تعلق الأمر بإدارتها، على سلوك طريق الحوار بدلاً من الخيارات الأحادية. وإذا دعت الحاجة، يمكن زيادة عدد الهيئات المؤسسية على الصعيد الدولي، لكي نعمل معاً على إدارة هذا “المنزل” الذي هو منزلنا؛ بيد أنه من الأهمية بمكان في بداية الأمر أن تنضج في الضمائرالقناعة بضرورة تعاوننا مع بعضنا البعض بطريقة مسؤولة. فالمشاكل التي تلوح في الأفق معقدة وملحة. ولمواجهة هذا الوضع بفعالية، علينا أن نعمل على توحيد جهودنا. وثمة مجال قد تبرز فيه بالأخص ضرورة تعزيز الحوار بين البلدان، وهو مجال إدارة موارد الطاقة في كوكبنا. وهنا، تجد الدول المتطورة تكنولوجياً أنفسها أمام أمرين ملحين، حيث عليها، من جهة، أن تعيد النظر في أنماطها الإستهلاكية المبالغ فيها والمرتبطة بالنموذج الحالي للتنمية. وعليها، من جهة أخرى، أن توفر الإستثمارات المؤاتية لتنويع مصادر الطاقة وتحسين أوجه استعمالها. إن للدول الناشئة حاجات هائلة في مجال الطاقة، ولكن ما يحصل أحياناً هو أن هذه الحاجات تُلبّى على حساب دول فقيرة تضطر، بسبب نقص البنى التحتية فيها بما في ذلك على الصعيد التكنولوجي، إلى بيع موارد الطاقة المتوافرة لديها بأسعار زهيدة، حتى إن حريتها السياسية ذاتها توضع أحياناً على المحك من خلال أشكال من الوصاية أو أقله من التحكم التي تبدو مهينة بشكل جلي.
الأسرة والجماعة البشرية والاقتصاد
9- إن الشرط الأساسي للسلام في كل أسرة يكمن في استنادها إلى أرضية صلبة من القيم الروحية والأخلاقية المشتركة. ولكن ينبغي أن نضيف أن الأسرة تحيا خبرة سلام حقيقية عندما يطمئنّ كل عضوٍ فيها إلى حصوله على حاجاته الأساسية وعندما تقوم إدارة جيدة للإرث العائلي –ثمرة عمل البعض وادّخار الآخرين والتعاون الحثيث بين الجميع- في التضامن، دونما تبذير أو هدر. وبالتالي، فإن تحقيق السلام في العائلة يفترض، من جهة، انفتاحاً على إرث متسامٍ من القيم، ويفترض من جهة أخرى، -وهذا لا يقلّ أهمية عمّا سبق- إدارة رشيدة للخيرات المادية وللعلاقات بين الأشخاص. ومن شأن إهمال هذه ال
نواحي أن يؤدي إلى زعزعة الثقة المتبادلة بسبب أسباب عدم اليقين التي تهدد مستقبل الأسرة.
10- ويمكننا أن نطبّق هذه الأفكار على الأسرة الكبيرة الأخرى المتمثلة في البشرية برمتها. ففي وقت تعيش فيه الأسرة البشرية اليوم حالة اتحاد أكبر بفعل ظاهرة العولمة، نراها تحتاج أيضاً، بالإضافة إلى ركيزة القيم المشتركة، إلى اقتصاد قادر على الإستجابة فعلاً إلى متطلبات الخير العام على صعيد الكرة الأرضية بكاملها. وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان اللجوء إلى نموذج الأسرة الطبيعية. ولا بدّ من تفعيل علاقات عادلة وصادقة بين الأفراد والشعوب، لكي يتمكن الجميع من التعاون على أساس من المساواة والعدالة. وفي الوقت ذاته، علينا ألا ندّخر جهداً من أجل أن نضمن استخداماً حكيماً للموارد وتوزيعاً منصفاً للثروات. ويجب أن تستجيب المساعدات المقدمة إلى الدول الفقيرة بشكل خاص إلى معايير منطق إقتصادي سليم، فتبتعد عن الهدر الذي يؤدي، في نهاية المطاف، أكثر ما يؤدي إلى استمرار عمل الأنظمة البيروقراطية المكلفة. كما يُفترض ألا نغضّ الطرف عن الحاجة الأخلاقية، فنسمح للنظام الإقتصادي أن ينتج فقط عن قوانين الكسب الفوري التي لا ترحم والتي قد يتبين أنها غير إنسانية في نهاية الأمر.
العائلة والجماعة البشرية والقاعدة الأخلاقية
11- إن الأسرة تحيا بسلام إذا ما خضع كل أعضائها لقاعدة مشتركة: فمن شأن ذلك أن يمنع التفرد الأناني وأن يقيم روابط بين أفرادها كافة، ما يعزز تناغم العيش والتعاون بينهم من أجل بلوغ هدف مشترك. وهذا المعيار البديهي بحدّ ذاته يصلح أيضاً للمجتمعات الأوسع، من الصعيد المحلي والوطني، ووصولاً إلى المجتمع الدولي ذاته. فالسلام يفترض قاعدة مشتركة تسمح للحرية أن تكون هي هي، وليس إعتباطية عمياء، وأن تحمي الضعيف من تعسف الأقوى. وفي أسرة الشعوب، يطالعنا الكثير من التصرفات الإعتباطية، سواء ضمن البلد الواحد أو في العلاقات بين الدول، ناهيك عن حالات وما أكثرها تضطرّ الضعيف إلى الإنحناء ليس أمام مقتضيات العدالة وإنما أمام قوة من هو أكثر اقتداراً منه. وإنّا نكرر ونقول: على القوة أن تخضع دائماً لحكم القانون وعلى ذلك أن يتحقق أيضاً في العلاقات بين الدول التي تتمتع بالسيادة.
12- لقد تطرقت الكنيسة، في مناسبات عدّة، إلى طبيعة القانون ووظيفته: فالقاعدة القانونية التي ترعى العلاقات بين الأشخاص، بتنظيمها التصرفات الخارجية ولحظها عقوبات تقع على من يخالف هذه الأحكام، تعتمد معياراً لها القاعدة الأخلاقية القائمة على طبيعة الأشياء. والمنطق البشري قادر على تمييزها، أقله على صعيد المقتضيات الأساسية، بالعودة إلى منطق الخلق عند الله، الذي هو في أساس كل شيء. وعلى هذه القاعدة الأخلاقية أن ترعى خيارات الضمائر وتوجه تصرفات البشر كافة. فهل من قواعد قانونية ترعى العلاقات بين البلدان التي تشكل الأسرة البشرية؟ وفي حال وجودها، أتراها فعالة؟ الجواب هو نعم، إن هذه المعايير متوافرة، ولكن لتكون هذه المعايير أكثر فعالية لا بدّ من العودة إلى القاعدة الأخلاقية الطبيعية التي هي في أساس القاعدة القانونية، وإلا بقيت هذه القاعدة خاضعة لحالات توافق هشة وموقتة.
13- إن إدراك القاعدة الأخلاقية الطبيعية ليس حكراً على الإنسان الذي يعود إلى ذاته ويتساءل، حيال ما تؤول إليه حاله، عن المنطق المكوّن لأكثر التطلعات عمقاً التي يميزها في داخله. فهو يمكنه أن يتوصل، لا من دون ريبة وتردد، إلى أن يكتشف، أقله في خطوطها العريضة، هذه القاعدة الأخلاقية المشتركة التي، بغضّ النظرعن الإختلافات الثقافية، تسمح للبشر أن يتفاهموا حول أهم أوجه الخير والشر، والعدل والظلم. فلا بدّ إذاً من العودة إلى هذه القاعدة الأساسية ومن تسخير كل جهودنا وطاقاتنا الفكرية للبحث عنها، من دون أن نسمح للإلتباسات أو المعاني المضمرة من أن تهدّ عزيمتنا. إن القيم المتجذرة في القانون الطبيعي، ولو بطريقة مجتزأة ينقصها التماسك في أحيان كثيرة، هي مكرسة في المواثيق الدولية، وفي الصكوك الملزمة المعترف بها دولياً، وفي مبادئ القانون الإنساني المدرجة في تشريعات الدول أو في أنظمة الهيئات الدولية. إن الإنسانية ليست “من دون شريعة“. بيد أنه من الملحّ أن تواصل التحاور في هذه المسائل، لكي تتوصل الدول في تشريعاتها إلى تلاقٍ في الإعتراف بحقوق الإنسان الأساسية. ويعتمد تقدم الثقافة القانونية في العالم في ما يعتمد على واجب التزام يرمي إلى تطبيق أفعل للمعايير الدولية ذات البعد الإنساني الخالص، حتى لا تؤول مجرد إجراءات يسهل التحايل عليها لمآرب أنانية أو أيديولوجية.
تجاوز الصراعات ونزع السلاح
14- إن البشرية في أيامنا اليوم تعيش وللأسف انشقاقات كبيرة وصراعات عنيفة ترخي بظلالها الحالكة على مستقبلنا. وتشهد أصقاع واسعة من العالم توترات تزداد حدّة، كما يثير خطر توجه عدد أكبر من الدول إلى حيازة السلاح النووي مخاوف مشروعة في نفس كل شخص مسؤول. وإنا نشهد اليوم أيضاً العديد من الحروب الأهلية التي تعصف بالقارة الأفريقية، وإن كنا نلمس في بعض بلدانها تقدماً ملحوظاً على درب الحرية والديمقراطية. ولا يزال الشرق الأوسط مسرحاً للصراعات والإعتداءات التي تتأثر بها الأمم والمناطق المجاورة، ما يعرّضها لخطر الإنزلاق في دوامة العنف.
وبشكل عام، يُسجَّل بأسى تزايد عدد الدول المتورطة في سبا
ق التسلح، حتى إن دولاً نامية تقتطع جزءاً كبيراً من ناتجها المحلي الهزيل لشراء الأسلحة. وإن هذه التجارة المغرضة تتطور جرّاء مسؤوليات أطراف كثر: من دول العالم الصناعي التي تجني أرباحاً طائلة من بيع الأسلحة، إلى حكم القلّة المهيمنة في العديد من الدول الفقيرة والتي تسعى إلى تعزيز مواقعها بشراء الأسلحة الأكثر تطوراً. ففي هذه الظروف العصيبة، من الضرورة بمكان أن ينهض كل أصحاب النوايا الحسنة لإيجاد اتفاقات ملموسة تهدف إلى التوصل إلى نزع فعلي للسلاح، ولاسيما الأسلحة النووية. وفي وقت تشهد فيه عملية منع انتشار الأسلحة النووية تباطؤاً، لا يمكنني إلا أن أدعو السلطات المعنية إلى التسلح بعزم أكبر لاستئناف المفاوضات الهادفة إلى نزع تدريجي ومتفق عليه للأسلحة النووية المتوافرة. وإني، إذ أجدد دعوتي هذه، أدرك أنني أعبّر عن أمنية الكثيرين ممن يهتمون لمستقبل البشرية.
15- منذ حوالى ستين عاماً، قامت منظمة الأمم المتحدة بإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948- 2008) بشكل رسمي. وقد أرادت الأسرة البشرية، من خلال هذه الوثيقة، أن تسجل موقفاً إزاء أهوال الحرب العالمية الثانية، بالإعتراف بوحدتها القائمة على المساواة في الكرامة بين البشر كافة وبتكريس احترام الحقوق الأساسية للأفراد والشعوب في صلب التعايش البشري: فإذا بها خطوة حاسمة على الدرب الشائك والمضني نحو الوئام والسلام. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى الإحتفال هذا العام بالذكرى الخامسة والعشرين لاعتماد الكرسي الرسولي شرعة حقوق العائلة (1983- 2008) وبالذكرى السنوية الأربعين لإطلاق اليوم العالمي للسلام (1968- 2008).
إن الإحتفال بهذا اليوم العالمي الذي جاء ثمرة حدس إلهي عند البابا بولس السادس والذي تابعه سلفي السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني بقناعة راسخة، قد سمح للكنيسة أن تطور على مرّ السنين وبفضل الرسائل الصادرة في هذه المناسبة عقيدة منيرة لما فيه خدمة هذا الخير البشري الأساسي. وعلى ضوء هذه الإحتفالات المهمة، أدعو الرجال والنساء كافة إلى أن يعوا بشكل أوضح انتماءهم المشترك إلى الأسرة البشرية الواحدة وإلى العمل الحثيث كيما يجسّد التعايش على الأرض باستمرار وبشكل أكبر هذه القناعة التي تشكل شرطاً لإرساء سلام حقيقي ودائم. كما أدعو المؤمنين إلى التضرع إلى الله دونما كلل، لكي يمنّ علينا بنعمة السلام الكبرى. أما المسيحيون، فهم يدركون أن بإمكانهم التوكل على شفاعة من هي أم ابن الله المتجسد لخلاص البشرية جمعاء وأمّنا جميعاً.
ولكم جميعاً منّي أطيب التمنيات لهذا العام الجديد!
أعطي في الفاتيكان، 8 ديسمبر 2007
بندكتس السادس عشر
راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في عصرنا، عدد 1.
راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي “فرح ورجاء” ، عدد 48.
البابا يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي، العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 30 ديسمبر 1988، عدد 40: أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989)، ص.469 : الوثائق الكاثوليكية 86 (1989)، ص.176.
المرجع نفسه.
المجمع الحبري للعدالة والسلام، مختصر عقيدة الكنيسة الاجتماعية، عدد 211.
المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي “نشاط الكنيسة الرسولي“، عدد 11.
المادة 16/3.
المجمع الحبري للعائلة، شرعة حقوق العائلة (24 نوفمبر 1983)، الديباجة: الوثائق الكاثوليكية، 80 (1983)، ص.1154.
(ترجمة ميرنا تابت – وكالة زينيت العالمية)