* * *

الى هذا يضاف شيء آخر. بوصفها طريقة تاريخية, فهي تستدعي نظامية النص الذي جرت فيه الاحداث. ويجب ان تعالج الكلمات التي هي امامها ككلمات بشرية. ويمكنها, التفكير بها، ان ترى "القيمة المضافة" التي تنطوي عليها الكلمة، وأن ترى فيها بعدا أرفع، وتدشن هكذا تخطي الذات، لكن موضوعها يظل كلمة الانسان بوصفها كلمة بشرية.
وفي النهاية، فهي ترى مختلف الكتب المقدسة في أوقاتها التاريخية. وتوزعها لاحقا بحسب ينابيعها، ولكن وحدة هذه الكتابات كلها بوصفها "كتابا مقدسا" ليس فيها شيء مما هو معطى تاريخي. ويمكنها، طبعا، أن ترى مختلف مراحل التطور، وتنامي مختلف التقاليد، وفي هذه الحالة، يمكنها أن تسجل التقدم نحو كتابة واحدة، بقطع النظر عن مختلف الكتب اذا نظرنا اليها كتابا كتابا. ولكن على الطريقة التاريخية، منذ البدء، أن ترقى الى أصل النصوص، وأن تبدأ هكذا أن تعود بها الى ماضيها، قبل، والحق يقال، أن تكمل هذه الطريقة التي تعود الى الماضي بالطريقة المخالفة: أي متابعة تنامي وحدات النص الآخذ في التكون. وأخيرا، يجب القول أن حدود جميع محاولات معرفة الماضي تقوم على انه يستحيل تخطي دائرة الافتراضات، لأنه، في الواقع، من المستحيل ارجاع الماضي الى الحاضر. هناك ولا شك افتراضات لها درجة عالية من الحقيقة، غير أنه علينا أن نعي حدود قناعاتنا. والتاريخ، بما فيه تاريخ الشروح المعاصرة، يؤكد هذا الحد.ونستنتج من جهة أهمية الطريقة التاريخية النقدية، مع وصف حدودها من جهة ثانية. ويصبح واضحا، مع هذه الحدود، على ما آمل، ان هذه الطريقة، تبعث من طبيعتها الى أمر يتخطاها، وأنها منفتحة ذاتيا على طرق تكميلية. وفي امكاننا، في كلمة الماضي، أن نسمع السؤال عن حاضرها. وفي عبارات الناس هناك شيء أكبر في امكاننا أن نسمعه. والكتابات المختلفة ترسل بطريقة أو بأخرى، الى طريقة الكتاب المقدس الوحيد، الحية الفاعلة فيها. ومن هذا التحقيق ولد وتطور في أميركا، منذ نحو ثلاثين سنة، مشروع "الشرح القانوني"، الذي يرمي الى قراءة مختلف النصوص باعادتها الى مجمل الكتاب الوحيد. وهذا ما يسمح باعطائها ضؤا جديدا. ان الدستور في الوحي الإلهي من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في العدد 12، كان قد وضع هذه النقطة في دائرة الضؤ، وهي تشكل في الواقع مبدأ الشرح الكتابي الأساسي: من أراد أن يفهم الكتاب بهذه الروح ذاتها التي حملت على كتابته، عليه أن يقيم المحتوى ووحدة الكتاب بكامله. ويجب الأخذ في الاعتبار أيضا، يضيف المجمع، تقليد كل الكنيسة الحي، ومشابهة الايمان (التوازيات الداخلية في الايمان).لنتوقف أولا عند وحدة الكتاب المقدس. فهناك معطى لاهوتي، لكنه غير مضاف من الخارج الى مجموعة نصوص مختلفة في حد ذاتها. لقد أظهرت طريقة شرح الكتاب المقدس الحديثة ان السياق الذي تمر به الكلمات التي تنقلها التوراة، تصبح كتابية، انما هو سياق تجب قراءته قراءة دائمة:ان النصوص القديمة، في وضع جديد، تكون مقبولة قبولا جديدا، ومفهومة فهما جديدا، ومقرؤة قراءة جديدة. وعلى أثر قراءات متكررة، واصلاحات، وتعمق في هذه القراءات، وتوسعات، يصير تكوين الكتاب بالتدرج، على مثال كلمة تفتح شيئا فشيئا ما فيها من قوى داخلية كانت راقدة نوعا ما كبذار، وهي تنتظر لتثمر أن تحفزها على ذلك حالات جديدة، واختبارات وآلام جديدة.ان من ينطلق من يسوع المسيح ليلاحظ هذا السياق - الذي لا يسير، على وجه التأكيد، على خط مستقيم، وغالبا ما يكون مأساويا، ولكنه يذهب دائما الى الأمام - في امكانه أن يميز أن هناك اتجاها في هذه المجموعة، وأن العهد القديم والعهد الجديد لا يمكن فصلهما. من المؤكد أن التفسير اللاهوتي المتعلق بالمسيح الذي يرى في يسوع المسيح مفتاح المجموعة، والذي، ذهابا منه، يفهم الكتاب المقدس كوحدة، يتطلب فعل ايمان، ولا يمكنه أن يكون نتيجة طريقة تاريخية محضة. ولكن فعل الايمان هذا يحمل في داخله سببا تاريخيا: فهو يسمح برؤية وحدة الكتاب المقدس الداخلية، وانطلاقا من ذلك، يكون لذاته فهما جديدا لمختلف مراحل مسيرته، دون أن ينتزع منها أصالتها التاريخية.ان "الشرح القانوني" - أي قراءة مختلف نصوص التوراة في مجملها - هو بعد جوهري للتأويل، وهو ليس على تناقض مع الطريقة التاريخية النقدية، لكنه يمددها عضويا ويحولها لاهوتا محضا. وتفسير النص التاريخي النقدي يبحث عن العثور مجددا على معنى الكلمات الأصلي الدقيق، مثلما كانت تسمع وتفهم في مكانها وزمانها. وهذا أمر جيد وهام. ولكن ما عدا أن هذا النوع من اعادة التركيب هو ذو مصداقية نسبية، يجدر بنا أن نبقي حاضرا في الذهن ان كل عبارة رجل ذي أهمية تخفي لأول وهلة أكثر مما تمكن من ايصاله حالا الى ضمير المؤلف على التو. ويمكننا أن نتكلم عن قيمة الكلمة، ولها مضافة داخلية تتجاوز الهنيهة التي لفظت فيها، وانها قد نضجت في سياق تاريخ الايمان. وفي هذه الحالة، ان المؤلف لا يتكلم فقط عن ذاته، ولذاته. فهو يتكلم، فيما هو يغرف من تاريخ عام يحمله، وهو تاريخ تقيم فيه، في الوقت ذاته، اقامة سرية حاضرة، امكانات مستقبله، وطريقه اللاحقة. وسياق اعادة قراءة الكلمات وتضخيمها لما كانا ممكنين لو لم يكن حاضرا، في الكلمات عينها، مثل هذا الانفتاح الذاتي.وهنا، في امكاننا نوعا ما، أن نكتنه اكتناها تاريخيا ما هو معنى الوحي: ان المؤلف لا يتكلم بوصفه شخصا فردا، أو كشخص منطو على نفسه. فهو يتكلم في وسط جماعة حية، ولذلك فهو تحمله حركة تاريخية حية لا يخلقها، ولا تخلقها الجماعة، ولكنها تعمل فيه ا قوة عليا موجهة. فهناك أبعاد للكلمة أشارت اليها، بطريقة خاصة، العقيدة القديمة، عقيدة الكتاب ذات الأربعة معاني. ومعاني الكتاب الأربعة ليست اشارات خاصة متقابلة، بل هي أبعاد كلمة واحدة تذهب الى أبعد من البرهة القائمة.وهذا الاعتبار يتضمن الوجه الثاني الذي أريد أن أتحدث عنه. ان مختلف الكتب المقدسة، وتلك التي تؤخذ بمجملها، ليست هي عملا أدبيا. الكتب المقدسة أوجدها كائن حي، هو شعب الله. وهي تطورت وعاشت في أحشائه. ويمكن القول أن الكتب المقدسة تشير الى ثلاثة أمور متداخلة، يؤثر كل منها في الأخر. وهي لها مؤلف واحد خاص، أو عدة مؤلفين نحن مدينون لهم بهذه أو تلك الكتابة. ولكن هؤلاء المؤلفين ليسوا بكتبة مستقلين بمعنى الكلمة الحديث. فهم جزء من موضوع عام، هو شعب الله، الذي انطلاقا منه يتكلمون، ويتوجهون اليه. فان هذا الفاعل هو حقا "المؤلف"، العميق للكتابات. ومن جهة ثانية، ان هذا الشعب ليس معزولا، فهو يعرف أن الله عينه هو الذي يقوده ويسائله، وهو يتكلم في الأعماق عبر الناس والانسانية.والرباط مع "الفاعل"، أي "شعب الله"، هو حيوي للكتاب المقدس. فمن جهة، ان الكتاب المقدس هو المعيار الذي يأتي من الله، والقوة التي تقود الشعب، غير أنه من جهة ثانية، ان هذه الكتابة لا تعيش الا في هذا الشعب، الذي يجد نفسه في هذه الكتابة، ويتخطاها، ويصبح بذلك - في النهاية انطلاقا من الكلمة الذي صار جسدا - شعب الله. ان شعب الله، أي الكنيسة، هو موضوع الكتاب المقدس الحي، وفيه الكلمات التوراتية هي دائما من الحاضر. وهذا يتضمن بوضوح ان هذا الشعب يقر بأنه قبل ذاته من الله، وفي النهاية، من المسيح. المتجسد، وانه يقبل بان ينظمه المسيح، ويقوده، ويوجهه اليه.واني شعرت بانه من واجبي أن أوفر للقارئ هذه التعليمات التي تنم عن الطريقة التي اتبعتها، لأنها تحدد طريق تفسيري لوجه يسوع في العهد الجديد. ولتقديم يسوع، هذا يعني خاصة أني أثق بالأناجيل. لا شك، في أن ما يقوله لنا المجمع والشرح الحديث عن الأنماط الأدبية، وعن نية التأكيدات، وعن محيط الانجيل الجماعي، وعن كلمتهم في هذه المجموعة الحية. وبعد أن أحطت بذلك كله، قدر المستطاع، لقد أردت أن أحاول تقديم يسوع الأناجيل كيسوع حي، و"كيسوع التاريخي" في ما للكلمة من معنى خاص. واني موقن، وآمل أن يرى القارئ ذلك، ان هذا الوجه هو أكثر ما يكون منطقيا، وناطقا تاريخيا، وقابلا للتفهم، أكثر من البنى التي ووجهنا بها في عشرات السنوات الأخيرة. وانا أعتقد أن هذا اليسوع ، يسوع الأناجيل، هو وجه معقول ومتماسك تاريخيا.
فقط كما لو أن شيئا خارق العادة حدث، كما لو أن وجه يسوع وكلماته قد تجاوزت كل الامال وكل الانتظار، يمكن شرح صلبه ونفوذه. وما انقضت عشرون سنة على موت يسوع، حتى نجد في الأنشودة الكبرى للمسيح في رسالة القديس بولس الى الفيلبيين (2: 7-11)، عقيدة متماسكة عن المسيح تقول بان المسيح هو معادل لله، وأنه تخلى عن ذاته، وصار انسانا، وتواضع حتى الموت على الصليب، وأنه يستوجب من الكون التكريم، والعبادة التي أعلنها الله في آشعيا النبي (راجع 45: 23) على أنها واجبة لله وحده.والبحث النقدي يتساءل: ماذا جرى في العشرين سنة التي تبعت صلب يسوع؟ وكيف تم الوصول الى هذا النوع من العقيدة الخاصة بالمسيح؟ وعمل الجماعات المجهولة التي صار السعي الى معرفة ممثليها، لا يمكنها أن تشرح شيئا. وكيف كان في امكان جماعات مجهولة تمكنت من أن تكون خلاقة؟ وأن تبرهن عن اعتقاد كبير، وقد نجحت في الاقناع. أفما كان منطقيا، من الناحية التاريخية، اعتبار أن العظمة هي في البدء، وأن شخص يسوع قد حطم كل المقولات المعروفة، وأنه لا يمكن فهمه الا انطلاقا من سر الله؟ صحيح أن الاعتقاد بأنه الله، فيما أن هذا يتخطى وسائل الاسلوب التاريخي. وعلى العكس من ذلك، وفي ضوء هذا الاعتقاد الراسخ في الايمان، تمكن قراءة النصوص بالاعتماد على الطريقة التاريخية، وانفتاحها على شيء أكبر. اذاك تنفتح النصوص، وينتج عنها طريق ووجه جديران بالايمان. وان ما يخرج بكل وضوح في نصوص العهد الجديد، انما هو البحث المعقد، على مستويات مختلفة، حول وجه يسوع، وعلى الرغم من الفوارق، عن وحدة هذه الكتابات العميقة.

لا بد لنا من أن نتوجه بالشكر الى جميع الذين أعربوا لنا بزياراتهم واتصالاتهم الهاتفية والكتابية، من لبنان وخارجه، ليعربوا لنا عن تضامنهم معنا ومع الكرسي البطريركي أمام الحملة المتجنية التي تعرضنا لها، ونخص من بينهم المسؤولين، وعلى رأسهم رئيس مجلس الوزراء السيد فؤاد السنيورة، سائلين الله أن يسدد خطانا جميعا الى ما فيه رضاه تعالى واعادة الهدوء والسلام الى ربوع لبنان.

البابا يدعو طلاب معهد كابرانيكا الحبري إلى الاستفادة من إقامتهم الرومانية لتنمية العلاقة الحميمة مع المسيح في الصلاة والتأمل

الفاتيكان، 20 يناير 2008 (ZENIT.org). – عن إذاعة الفاتيكان – التقى البابا بندكتس الـ16 ظهر السبت وفدا من طلاب معهد كابرانيكا الحبري الإكليريكي وتقدمهم نائب البابا على أبرشية روما الكاردينال كاميلو رويني ورئيس المعهد، ووجه لهم كلمة أشاد بالتاريخ العريق الذي يحمله على الأكتاف الطلاب الحاليين وحيا عبرهم قدامى المعهد المنتشرين في أرجاء العالم يخدمون الكنيسة والنفوس.