واشنطن، الخميس 17 أبريل 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي خطاب البابا إلى أساقفة الولايات المتحدة لدى ترؤسه الاحتفال بصلاة الغروب في المزار الوطني لسيدة الحبل بلاد دنس في واشنطن مساء الأربعاء 16 أبريل 2008.
* * *
أيها الإخوة الأساقفة،
إنه لَمدعاة فرح كبير لي أن أحيّيكم اليوم، في مطلع زيارتي لهذه الامة، وأشكر الكاردينال جورج لأجل الكلمات اللطيفة التي وجهها لي نيابةً عنكم. أود أن أشكركم جميعًا، وخصوصًا مسؤولي مجلس الأساقفة لأجل العمل الدؤوب الذي قاموا به تحضيرًا لهذه الزيارة. يذهب تقديري الممنون أيضًا إلى موظفي ومتطوعي المزار الوطني، الذين استقبلونا هذا المساء. يشتهر الكاثوليك الأميركيون بأمانتهم وإخلاصهم لكرسي بطرس. وزيارتي الرسولية هذه هي مناسبة مؤاتية لتدعيم أواصر الشركة التي تربطنا.
لقد بدأنا بالاحتفال بصلاة الغروب في هذه البازيليك المكرسة للحبل بلا دنس بالعذراء مريم، وهو مزار فريد الأهمية بالنسبة للأميركيين الكاثوليك، في قلب عاصمتكم بالضبط. وإذ نتألب للصلاة مع مريم، أم يسوع، نوكل بمحبة لأبينا السماوي شعب الله في كل أنحاء الولايات المتحدة الأميركية.
بالنسبة للجماعة الكاثوليكية في بوسطن، نيويورك، فيلادلفيا، ولويسفيل، هذه السنة هي سنة خاصة للاحتفال، لأنها تصادف المئوية الثانية لتثبيت هذه الكنائس المحلية كأبرشيات. أشترك معكم في الحمد من أجل النعم الكثيرة التي نالتها الكنيسة هناك في هذه القرنين.
وبما أن هذه السنة تصادف أيضًا رفع كرسي بالتيمور التأسيسية إلى كرسي رئاسة أسقفية، فهي تفسح لي المجال لكي أذكر بإعجاب وعرفان حياة وخدمة جون كارول، أول أسقف في بالتيمور – ورئيس جدير للجماعة الكاثوليكية في أمتكم المستقلة حديثًا. إن جهده الذي لا يعرف الكلل في نشر الإنجيل في المساحات الشاسعة الموكلة إلى عنايته وضع الأسس للحياة الكنسية في أمتكم وأهل كنيسة أميركا أن تنمو نحو النضج.
حاليًا، تشكل الجماعة التي تخدمونها إحدى أكبر الجماعات في العالم، وهي من بين أكثرها تأثيرًا. كم هو مهم إذًا أن تجعلوا نوركم يشع هكذا أمام مواطنيكم والعالم، "لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5، 16).
كثير من الشعوب التي خدمها جون كارول وإخوته الأساقفة منذ قرنين كانوا شعوبًا سافرت من أراضٍ رحيقة. تعدد الأصول ينعكس في غنى تنوع الحياة الكنسية في أميركا اليوم.
أيها الإخوة الأساقفة،
أود أن أشجعكم وجماعتكم على المضي قدمًا في استقبال المهاجرين الذين ينضموا إلى صفوفكم اليوم، لكي تتقاسموا أفراحهم وآمالهم، لكي تعضدوهم في آلامهم وتجاربهم، ولكي تساعدوهم على الازدهار في بيتهم الجديد. هذا هو حقًا ما قام به إخوتكم في الوطن لأجيال. منذ البدء، فتحوا أبوابهم للمتعبين وللفقراء، ولـ "حشود البشر التواقة إلى تنفس الحرية" (راجع بيت الشعر المحفور على تمثال الحرية). هذه هي الشعوب التي جعلتها أميركا خاصتها.
تمكن الكثير من بين أولئك الذين أتوا ليبنوا حياةً جديدة هنا، أن يستفيدوا من الموارد والفرص التي لاقوها، وأن يحرزوا درجة عالية من البحبوحة. بالواقع، يعرف شعب هذه الأمة بحيوته الكبيرة وروحه الخلاّقة. كما ويعرف بسخائه. فبعد الاعتداء على البرجين التوأمين في 11 سبتمبر 2001، وأيضًا بعد إعصار كاترينا في عام 2005، أظهر الأميركيون استعدادهم للهبوب في مساعدة إخوتهم وأخواتهم المحتاجين إلى معونة.
على صعيد دولي، إن إسهام شعب أميركا في أعمال الإغاثة والإنقاذ بعد فيضان ديسمبر 2004 هو دليل آخر لهذه الرحمة. اسمحوا لي أن أعبّر عن تقديري الخاص لمختلف أشكال المعونة الإنسانية التي تقدمها الأميركيون الكاثوليك عبر مؤسسات المحبة الكاثوليكية وغيرها من المؤسسات. لقد حمل هذا السخاء ثمارًا في العناية بالفقراء والمحتاجين، وفي الطاقة التي وُظّفت في بناء شبكة وطنية من الرعايا الكاثوليكية، والمستشفيات، والمدارس والجامعات. كل هذا هو مدعاة شكر عميم.
أميركا هي أيضًا أرض إيمان عظيم. يتميز شعبكم بحرارة تدينه وهم يفاخرون بانتمائهم لجماعة عبادة. يتحلون بالثقة بالله، ولا يترددون في تقديم آراء خلقية متجذرة في الكتاب المقدس في الخطابات العامة. احترام الحرية الدينية عميق الرسوخ في الوعي الأميركي – وهو أمر ساهم في تعزيز جاذبية هذه الأمة لأجيال من المهاجرين، الباحثين عن وطن يستطيعون أن يعبدوا فيه بحرية طبقًا لمعتقداتهم.
في هذا الإطار، أشير بفرح إلى وجود أساقفة من كل الكنائس الشرقية الجليلة في شركة مع خليفة بطرس في ما بينكم، وأحيّيهم بفرح خاص.
أيها الإخوة الأعزاء، أطلب إليكم أن تؤكدوا لجماعاتكم عميق محبتي وصلاتي المتواصلة، لأجلهم ولأجل الكثير من الإخوة والأخوات الذين بقوا في أرضهم الأم. حضوركم هنا يذكرنا بالشهادة الشجاعة للمسيح التي يقدمها عدد كبير من أبناء جماعاتكم، غالبًا في خضمّ الآلام، في أوطانهم الأم. إنه لغنىً كبير للحياة الكنسية في أميركا، وهو يقدم تعبيرًا حيًا عن كاثوليكية الكنيسة وتنوع تقاليدها الليتورجية والروحية.
أيها الإخوة الأساقفة،
في هذه التربة الخصبة، التي تنال التغذية من مصادر جدّ مختلفة، أنتم مدعوون إلى إلقاء بذار الإنجيل اليوم. وهذا الأمر يحضني على أن أتساءل كيف يمكن لأسقف في القرن الحادي والعشرين أن يتجاوب على أفضل وجه مع الدعوة لكي "يجعل كل شيء جديدًا في المسيح رجائنا "؟ كيف يمكنه أن يقود شعبه إلى "لقاء الإله الحي"، مصدر الرجاء الذي يحول الحياة والذي يتحدث عنه الإنجيل (راجع "مخلصون بالرجاء"، 4)؟
ربما يحتاج أن يبدأ بإزالة بعض العوائق التي تحول دون هذا اللقاء. ورغم أن هذه الأمة مطبوعة بروح ديني أصيل، إلا أن تأثير العلمنة يمكنه أن يلوّن الطريقة التي يسمح بها الناس للإيمان أن يؤثر على تصرفاتهم. هل هناك توافق بين إعلان إيماننا في الكنيسة نهار الأحد، وتشجيع ممارسات مهنية وإجراءات طبيّة مناهضة لهذا اللإيمان خلال الأسبوع؟ هل هناك تماسك داخلي في كاثوليكي متدين يتجاهل الفقراء والمهمشين أو يستغلهم، ويشجع عوائد جنسية مخالفة للتعليم الخلقي الكاثوليكي، أو يأخذ مواقف تناقض حق كل كائن بشري بالحياة من الحبل وحتى الموت الطبيعي؟ يجب مقاومة أية نزعة إلى التعامل مع الدين كمسألة خصوصية. فقط عندما ينفذ الإيمان إلى جميع أبعاد حياة المسيحيين، يستطيعون أن يكونوا منفتحين على قوة الإنجيل المحولة.
يكمن عائق آخر أمام مجتمع ثري في وجه اللقاء بالله الحي في تأثير الماديةّ، التي تستطيع بكل سهولة أن تركز الانتباه على المائة ضعف، التي يعد بها الله في هذا الزمان، على حساب الحياة الأبدية التي يعد بها في الجيل الآتي (راجع متى 10، 30).
يحتاج الناس اليوم إلى من يذكرهم بأهداف حياتهم النهائية. يحتاجون إلى أن يكتشفوا أن في داخلهم عطش عميق إلى الله. يحتاجون أن يحظوا بإمكانيات لينهلوا من ينابيع حبه اللامتناهي. من السهل أن يتلهى الإنسان بالامكانيات اللامحدودة التي يضعها العلم والتكنولوجيا في متناولنا؛ من السهل الوقوع في خطأ التفكير بأننا نستطيع أن ننال بجهودنا تحقيق حاجاتنا الأعمق. لكن هذا وهم. دون الله، الذي وحده يستطيع أن ينعم علينا بما لا نستطيع الوصول إليه بذاتنا (راجع "مخلصون بالرجاء"، 31)، تضحي حياتنا فارغة. يحتاج الناس إلى من يذكّرهم باستمرار بأن يرعوا علاقتهم مع من أتى لتكون لهم الحياة بوفرة (راجع يو 10، 10). الهدف من عملنا الرعوي والتعليمي، الغاية من وعظنا، وتركيز خدمتنا الأسرارية يجب أن يكون مساعدة الناس على إقامة هذه العلاقة الحية مع "المسيح يسوع، رجائنا" (1 تيم 1، 1) وتنميتها.
في مجتمع يقدّر الحرية والاستقلالية الشخصية، من السهل التغاضي عن حاجتنا إلى الآخرين كما وعن المسؤوليات التي نحملها تجاههم. هذا التركيز على الفردانية قد أثّر حتى في الكنيسة (راجع "مخلصون بالرجاء"، 13 – 15)، فأدى إلى زيادة نوع من التقوى التي تشدد على علاقتنا الفردية مع الله على حساب دعوتنا إلى أن نكون أعضاءً في جماعة مخلَّصة.
منذ البدء، رأى الله أنه "ليس حسنًا أن يكون الإنسان وحده" (تك 2، 18). لقد خُلقنا ككائنات اجتماعية تجد اكتمالها فقط في الحب – حب الله وحب القريب. وإذا ما ثبتنا نظرنا في الله الذي هو مصدر فرحنا، يجب أن نقوم بذلك كأعضاء في شعب الله (راجع "مخلصون بالرجاء"، 14). إذا ما بدا هذا الأمر مخالفًا للثقافة، فإنما هذا دليل آخر على الضرورة الماسة لتبشير متجدد للثقافة.
هنا في أميركا، أنتم مباركون بفضل علمانيين كاثوليك يتمتعون بتنوع ثقافي معتبر، يضعون تنوع مواهبهم الواسع في خدمة الكنيسة والمجتمع الواسع. هم يرنون إليكم لينالوا التشجيع، والقيادة والهداية. في عصر مشبع بالمعلومات، لا يمكن المبالغة في التشديد على أهمية تأمين تنشئة إيمانية سليمة.
لقد أناط الكاثوليك الأميركيون أهمية كبرى بالتنشئة الدينية، في المدرسة وفي إطار برامج تنشئة الراشدين. يجب المحافظة على هذه البرامج وتوسيعها. يجب مساعدة جمع الرجال والنساء الأسخياء الذين يكرسون أنفسهم لأعمال المحبة لكي يجددوا تكريسهم عبر "تنشئة القلب": أي عبر "لقاء الله في المسيح الذي يوقظ حبهم ويفتح روحهم على الآخرين" ("الله محبة"، 31).
في زمن يحمل فيه تقدم العلم الطبي أملاً جديدًا لكثيرين، يحمل معه أيضًا تحديات خلقية لم يكن ممكنًا تخيلها من قبل. الأمر الذي يتطلب أكثر من أي وقت مضى تنشئة متكاملة في تعليم الكنيسة الخلقي للكاثوليك العاملين في حقل العناية الصحية. هناك حاجة للهداية الحكيمة في كل هذه الخدمات الرعوية حتى تستطيع أن تحمل ثمارًا جمة؛ إذا ما أردنا أن تعزز حقًا خير الشخص البشري المتكامل، عليها إذًا أن تتجدّد في المسيح رجائنا.
كمبشرين بالإنجيل، وكقادة الجماعة الكاثوليكية، أنتم مدعوون أيضًا إلى المشاركة في تبادل الآراء في الحقل العام، فتساعدوا بالتالي في صياغة المواقف الثقافية. في سياق تقدَّر فيه حرية الكلام، ويُشجَّع فيه الجدل المتماسك والصادق، صوتكم هو صوت محترم يستطيع أن يقدم الكثير للنقاش في شأن مسائل اليوم الاجتماعية والخلقية. تأكدوا أن تُسمِعوا صوت الإنجيل واضحًا، فبهذا، لا تنشّئوا أبناء جماعتكم وحسب، بل عبر امتداد وسائل الاتصال العام، تساعدون أيضًا في نشر رسالة الرجاء المسيحي في العالم طرًا.
من الواضح أن تأثير الكنيسة في النقاش العام يحدث في أبعاد مختلفة. في الولايات المتحدة، كما في أي مكان، هناك الكثير من مشاريع القانون السائدة والمعروضة التي تولد القلق من وجهة النظر الأخلاقية، وعلى الجماعة الكاثوليكية برعايتكم أن تقدم شهادة واضحة وموحدة في هذه المسائل. وأهم من ذلك أيضًا، هو الانفتاح التدريجي لفكر ولقلب الجماعة الأوسع على الحقيقة الخلقية. يجب القيام بالكثير في هذا المجال. إن دور المؤمنين العلمانيين هو حاسم في هذا الإطار، من خلال صيرورتهم "خميرة" في المجتمع. ولكن لا يمكن افت راض أن يفكر كل المواطنين الكاثوليك بشكل يتناغم مع تعليم الكنيسة حول المسائل الخلقية الآنية. مرة أخرى، يقع على عاتقكم واجب أن تتأكدوا من أن التنشئة الخلقية في كل مجال من مجالات الحياة الكنسية تعكس تعليم إنجيل الحياة الأصيل.
في هذا المجال، إن أحد دواعي الاهتمام العميق بالنسبة لنا جميعًا هو وضع العائلة في المجتمع. بالواقع، لقد ذكر الكاردينال جورج آنفًا أنكم ضمّنتم تقوية الزواج والحياة العائلية بين أوليات اهتمامكم في السنوات القليلة المقبلة.
في رسالة اليوم العالمي للسلام لهذه السنة، تحدثت عن الإسهام الجوهري الذي تقدمه الحياة العائلية السليمة للسلام في الدول وبينها. نختبر في البيت العائلي "بعض عناصر السلام الأساسية: العدالة والحب بين الإخوة والأخوات، دور السلطة التي يعبر عنها الوالدان، الاهتمام المحبّ بأعضاء العائلة الأضعف بسبب الصغر أو المرض أو كبر السنّ، والتعاون المتبادل في ضروريات الحياة، والجهوزية لقبول الآخرين، وإذا دعت الحاجة، إلى المغفرة لهم" (عدد 3). العائلة هي الموضع الأولي للتبشير، لنقل الإيمان، لمساعدة الشبيبة على تقدير أهمية الممارسة الدينية وحفظ يوم الأحد. كيف يمكننا ألاّ نقلق عندما نلحظ الانحطاط الحاد في العائلة كعنصر أساسي في الكنيسة والمجتمع؟ الطلاق والخيانة تزايدا، والكثير من الشباب والشابات يختارون إرجاء الزواج أو أن يتجاوزه بالكلية.
بالنسبة لبعض الكاثوليك، يكاد لا يختلف رباط الزواج الأسراري عن الرباط المدني، أو حتى عن قرار غير رسمي ومنفتح لمساكنة شخص آخر. ولذا، نشهد انخفاضًا مقلقًا في عدد الزيجات الكاثوليكية في الولايات المتحدة، مع تزايد في المساكنة التي تغيب فيها ببساطة هبة الذات بين الزوجين على مثال المسيح المختومة بوعد عام بالعيش بمقتضى التزام غير منفصم مدى الحياة.
في هذه الظروف، يُحرم الأبناء من بيئة آمنة يحتاجونها لكي ينمو حقًا ككائنات بشرية، ويُحرم المجتمع من حجارة البناء الثابتة التي يحتاجها إذا ما أراد أن يحافظ على اللاتحام والتركيز الخلقي في الجماعة.
كما سبق وعلّم سلفي البابا يوحنا بولس الثاني: "إن الشخص المسؤول بشكل رئيسي في الأبرشية عن الاهتمام الرعوي بالعائلة هو الأسقف... يحب أن يكرس لها الاهتمام الشخصي، العناية، الوقت، الموظفين والموارد، وفوق كل ذلك الدعم الشخصي للعائلات ولكل من... يساعده في الاهتمام الرعوي بالعائلة" ("ائتلاف العائلة"، 73). من واجبكم أن تعلنوا بشجاعة حجج الإيمان والعقل لصالح مؤسسة الزواج، كارتباط طوال العمر بين رجل وامرأة، منفتح على هبة الحياة. يجب أن يتردد صدى هذه الرسالة في شعب اليوم لأنها في جوهرها نَعَم غير مشروط ودون تحفظ للحياة، نعم للحب، نعم لتطلعات قلب بشريتنا المشتركة، إذ نكافح لأجل تحقيق توقنا الأعمق للحميمية مع الآخرين ومع الرب.
من بين العلامات المناهضة لإنجيل الحياة في أميركا وفي أماكن أخرى هناك واحدة هي مدعاة خجل عميق: الاعتداء الجنسي على القاصرين. أخبرني الكثير منكم عن الألم الكبير الذي تكبدته جماعاتكم عندما خان بعض الكهنة التزاماتهم الكهنوتية وواجباتهم بهذا التصرف غير الأخلاقي البالغ الخطورة. بينما تناضلون في سبيل القضاء على هذا الشهر أينما كان، كونوا أكيدين من دعم شعب الله المصلي في العالم بأسره.
بعدلٍ تكرسون الأولية لإبداء الرحمة والعناية بالضحايا. إنه مسؤولية موكلة إليكم من الله كرعاة بأن تضمدوا الجراح التي تسببت بها خيانة الثقة، لكي تعززوا الشفاء وتوطدوا المصالحة ولكي تمدوا يد العون باهتمام محب لمن تعرض لخطأ فادح.
الرد على هذه الحالة لم يكن سهلاً، كما أشار رئيس مجلسكم الأسقفي، وقد تم "التعامل معها بشكل سيئ جدًا أحيانًا". الآن وقد تم التوصل إلى وعي واضح لدرجة وخطورة المشكلة، تمكنتم من اعتماد مقاييس علاجية وتأديبية مركزة أكثر، ومن تعزيز بيئة آمنة تؤمّن حماية أكبر للصغار.
وبينما يجب أن نذكر بأن الأكثرية الساحقة من الإكليروس والرهبان في أميركا يقومون بعمل مدهش من خلال حمل رسالة الإنجيل المحررة للشعب الموكل إلى عنايتهم، من الأهمية بمكان أن تتم حماية الضعفاء من أولئك الذين قد يؤذونهم. في هذا المنظور، إن جهودكم للمعالجة والحماية تحمل ثمارها ليس فقط لمن هم موكلين مباشرة إلى اهتمامكم الرعوي، بل إلى المجتمع برمته.
ولكي تحقق المبادرات والبرامج التي اعتمدتموها أهدافها بالكلية، يجب أن توضع في إطار أوسع. يستحق الأطفال أن ينموا مع معرفة سليمة للجنس ولموقعها المناسب في العلاقات البشرية. يجب حمايتهم من المظاهر المنحطة والاستغلال البذيء للجنس المتفشي في أيامنا. يحق لهم أن يتربوا على القيم الأخلاقية الأصيلة المتجذرة في كرامة الشخص البشري.
يقودنا هذا الأمر من جديد إلى اعتبارنا لمحورية العائلة والحاجة إلى تشجيع إنجيل الحياة. ما معنى أن نتكلم عن حماية الأطفال عندما يمكن مشاهدة الأفلام الإباحية والعنف في الكثير من البيوت بواسطة وسائل إعلام منتشرة جدًا في أيامنا؟ نحن بحاجة ماسة لكي نعيد النظر بالقيم التي يقوم عليها المجتمع، لكي يتم تقديم تنشئة خلقية سليمة للصغار وللراشدين على حد سواء. للجميع دورهم في هذه المهمة – ليس فقط الأهل، والرؤساء الدينيين، والمربين ومعلمين الدين المسيحي، ولكن وسائل الإعلام وشركات الترفيه أيضًا.
بالواقع، إن كل عضو في المجتمع يستطيع أن يسهم في هذا التجدد الخلقي وأن يستفيد منه. الاهتمام الصادق بالصغار وبمستقبل حضارتنا يعني أن نعي مسؤوليتنا في تعزيز وعيش القيم الخلقية الأصيلة التي وحدها تمكن الشخص البشري من الازدهار. إنه واجبكم أنتم أيها الرعاة المصوغون على صورة المسيح، الراعي الصالح، أن تعلنوا الرسالة عاليًا وبوضوح، وأن تتحدثوا عن خطيئة الاعتداء الجنسي في إطار أوسع من أساليب عيش الأخلاقيات الجنسية. علاوة على ذلك، عبر الإقرار بالمشكلة ومواجهتها عندما تحدث في إطار كنسي، يمكنكم أن تعطوا أمثولة للآخرين، لأن هذه الآفة ليست موجودة في أبرشياتكم وحسب، بل في كل أبعاد المجتمع. وهي تتطلب جوابًا جماعيًا وحازمًا.
الكهنة أيضًا يحتاجون إلى هدايتكم وقربكم في هذه الأزمنة الصعبة. لقد خبروا العار لما جرى، وهناك البعض ممن خبروا أنهم فقدوا بعض الثقة والتقدير الذي كانوا يتمتعوا به سابقًا. عدد غير قليل منهم يختبر القرب من المسيح في آلامه إذ يجاهد للتوصل إلى تسوية نتائج الأزمة. الأسقف، مثل أب وأخ وصديق الكهنة، يستطيع أن يساعدهم لكي ينالوا ثمرًا روحيًا من الشركة مع المسيح عبر توعيتهم على حضور الرب المعزي وسط آلامهم، وعبر تشجيعهم على المسير مع الرب على درب الرجاء (راجع "مخلصون بالرجاء"، 39).
كما لاحظ البابا يوحنا بولس الثاني منذ ستة سنوات، "يجب أن نكون واثقين بأن أيام التجارب هذه ستؤدي إلى تطهير الجماعة الكاثوليكية بأسرها" وستؤدي إلى "كهنوت أكثر قداسة، وأساقفة أكثر قداسة، وكنيسة أكثر قداسة" (خطاب إلى كرادلة الولايات المتحدة الأميركية، 23 أبريل 2002، 4).
هناك الكثير من العلامات، التي تشير إلى أن هذا التطهير يجري حقًا في هذه الفترة. إن حضور المسيح في وسط آلامنا يحول تدريجيًا ظلماتنا إلى نور: كل شيء يصبح جديدًا حقًا في المسيح رجائنا.
في هذه المرحلة، إن عنصرًا حيويًا من مهمتكم هو أن تقووا العلاقات مع الإكليروس، وخصوصًا في تلك الحالات التي نشأ فيها توتر بين الكهنة وأساقفتكم مع نشأة المشكلة. من الأهمية بمكان أن تستمروا في إظهار الاهتمام لهم، وأن تدعموهم، وأن تقودوهم بمثالكم. بهذا الشكل ستكونون عونًا أكيدًا لهم للقاء الله، وتدلوهم إلى الرجاء الذي يحوّل الحياة الذي يتحدث عنه الإنجيل. إذا عشتم أنتم بالذات بشكل يطابق عن كثب المسيح، الراعي الصالح الذي وعب حياته لخرافه، فستلهمون إخوتكم الكهنة لكي يكرسوا أنفسهم لخدمة قطعانهم بسخاء كسخاء المسيح.
بالواقع، إن تركيزًا أوضح على الاقتداء بالمسيح في قداسة العيش هو بالضبط ما نحن بحاجة إليه لكي نسير قدمًا. نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف فرح عيش حياة متمحورة على المسيح، عبر إنماء الفضائل، والغوص في الصلاة. وعندما يعرف المؤمنون أن راعيهم هو رجل يصلي ويكرس حياته لخدمتهم، سيجيبون بحرارة وعطف يغذي ويسند حياة كل الجماعة.
الوقت الذي نقضيه في الصلاة ليس أبدًا وقتًا مهدورًا، مهما كانت كثيرة المهام التي تضغط علينا من كل صوب. السجود للمسيح ربنا في القربان المقدس يمدد ويعمق الاتحاد به الذي يتحقق عبر الاحتفال بالافخارستيا (راجع "سر المحبة"، 66).
التأمل في أسرار الوردية يطلق كل القوة الخلاصية التي تتضمنها ويطابق حياتنا، ويوحدنا ويكرسنا للمسيح يسوع (راجع "وردية العذراء مريم"، 11، 15). الأمانة ليتورجية الساعات تضمن بأن يكون النهار بأسره مقدسًا وتذكرنا بأننا بحاجة لكي نبقى مركزين على القيام بعمل الله، بغض النظر عن كل الضغوط والتشتت الذي قد ينشأ من الاهتمامات التي بين أيدينا. ولذا فالتقوى تساعدنا على الكلام والعمل "بشخص المسيح" (in persona Christi) وأن نعلّم، وندبّر، ونقدّس المؤمنين باسم يسوع، وأن نحمل مصالحته، وشفاءه وحبّه لكل إخوته وأخواته المحبوبين. هذه المطابقة الجذرية للمسيح، الراعي الصالح، هي في صلب خدمتنا الرعوية، وإذا ما فتحنا نفوسنا عبر الصلاة لقوة الروح القدس، فسيمنحنا كل الهبات التي نحتاجها لكي نحقق مهمتنا الرهيبة، ولذا لا يجب علينا أبدًا أن "نهتم كيف نتكلم وماذا نقول" (مت 10، 19).
وإذ أختم كلمتي هذا المساء، أوكل الكنيسة في وطنكم بشكل خاص إلى عناية وشفاعة مريم البريئة من الدنس، شفيعة الولايات المتحدة. هي التي حملت في حشاها الرجاء لكل الأمم، فلتشفع بشعب هذه الأمة لكي يتجدد في المسيح يسوع ابنها.
إخوتي الأعزاء في الأسقفية، أؤكد للحاضرين منكم هنا عميق صداقتي واشتراكي في اهتماماتكم الرعوية. ولجميعكم، ولكل الإكليروس، والمكرسين والمؤمنين العلمانيين الموكلين لعنايتكم، أمنح من كل قلبي، بركتي الرسولية عربون فرح وسلام في الرب القائم.
* * *
نقله من الإنكليزية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.