الفاتيكان، الجمعة 12 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – “الجهل وحده قادر على بناء بيت ذهبي تحيط به صحراء قافرة”، هذا ما قاله الأب الأقدس بندكتس السادس عشر في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام، متحدثًا عن استحالة قيام عولمة رفاهية في إحدى أنحاء العالم، بينما تعاني شعوب بأسرها من الفقر المدقع في أماكن أخرى من العالم.
تحدث الأب الأقدس بندكتس السادس عشر في القسم الثاني من رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2009 بعنوان “محاربة الفقر، بناء السلام”، عن العولمة “كإحدى الدروب الرئيسة لبناء السلام بما أنها ترمي إلى تحقيق مصلحة الأسرة البشرية الكبرى”. ولفت إلى أن العولمة تحتاج إلى توجيه يتطلب “حضور تعاضد شامل بين البلدان الغنية والفقيرة وكذلك أيضا داخل الأمم الأفراد حتى ولو كانت ثرية”.
العولمة “المزدوجة”
رغم أن “العولمة تزيل بعض الحواجز لكن هذا لا يعني أنها عاجزة عن بناء حواجز جديدة” فالتقارب الزمني بين الشعوب لا يخلق تلقائيًا الشروط لاتحاد حقيقي وسلام أصيل. ونبه قداسة البابا أم “تهميش فقراء الأرض قد يجد حوافز في العولمة إذا ما شعر كل إنسان بأنه مجروح من أشكال عدم المساواة في العالم ومن التعديات على الحقوق الإنسانية المرتبطة بها”.
وقام البابا في الرسالة بتحليل لوجهي العولمة السلبي والإيجابي مستعرضًا مجال التجارة الدولية والتعاملات المالية. وتوقف على مسألة آنية جدًا هي قضية الأوضاع المالية “التي تتعلق بإحدى النواحي الرئيسة للعولمة بفضل نمو الإلكترونية وسياسات تحرير تدفق الأموال بين مختلف البلدان”، مشيرًا إلى أن “الوظيفة الأكثر أهمية للحالة المالية، أي دعم إمكانات الاستثمار وبالتالي النمو على المدى البعيد، تبدو اليوم هشة: إذ إنها تخضع لردود فعل سلبية لنظام التبادلات المالية تستند إلى مفهوم المدى القصير الساعي إلى زيادة حجم النشاطات المالية والتركيز على الإدارة التقنية لمختلف أشكال المخاطر”.
وتابع شارحًا تداعيات هذه السياسة المالية فقال: “الأزمة الراهنة تدل على أن النشاطات المالية تخضع، في بعض الأحيان، لمفاهيم أحادية المعاني ومفرغة من الاعتبارات وبالتالي من الخير المشترك. إن التساوي في أهداف العاملين في المجال المالي العالمي على المدى القصير ينقص قدرات هذا القطاع في أداء دوره كجسر بين الحاضر والمستقبل لدعم خلق فرص إنتاج جديدة وأماكن عمل على المدى البعيد. وإن وضعا من هذا القبيل يمسي، على المدى القصير، خطرا على الجميع حتى على المنتفعين في مراحل الانتعاش المالي”.
وعليه يتوجب على الدول والمؤسسات أن تتعاون اقتصاديًا وقانونيًا للقضاء على الفقر “عبر إيجاد وتطبيق حلول منسقة لمواجهة المشاكل المشار إليها مع وضع إطار قانوني للاقتصاد”.
“الحب المفضل للفقراء”
ثم صرح البابا أن “وضع الفقراء في طليعة اهتماماتنا يعني، في نهاية المطاف، تخصيص فضاء ملائم لمنطق اقتصادي سليم من قبل رواد السوق الدولية ومنطق سياسي سليم من قبل رواد المؤسسات ومنطق مشاركة سليم قادر على تقييم المجتمع المدني المحلي والدولي”.
وخلص الأب الأقدس إلى القول بأن العولمة تضحي إيجابية عندما لا تقتصر على العولمة الاقتصادية والتسويقية بل تنتفتح على قيم التضامن والتعاون وعلى الأخلاق. فمحاربة الفقر كظاهرة ترافق العولمة “تحتاج إلى رجال ونساء يعيشون بعمق التآخي وقادرين على مرافقة الأشخاص والعائلات والجماعات في مسيرات نمو إنساني أصيل”.
هذا وتبنى بندكتس السادس عشر تحريض البابا يوحنا بولس الثاني في الرسالة العامة السنة المائة حيث دعا إلى “الإقلاع عن الذهنية التي تحسب الفقراء ـ أفرادا وشعوبا ـ شبه عبء ومجموعة من المزعجين الطامعين في استهلاك ما ينتجه الآخرون. إن الفقراء يطالبون بحقهم في المشاركة في الخيور المادية، وتوظيف ما لديهم من طاقة عمل، لتكوين عالم أكثر عدالة وازدهارا للجميع”.
وصرح قائلاً: “الجهل وحده قادر على بناء بيت ذهبي تحيط به صحراء قافرة”. فالعولمة بمفردها “عاجزة عن بناء السلام لا بل إنها، في حالات عديدة، تسبب انقسامات ونزاعات”.
وتابع: “تبرز العولمة احتياجا خاصا أي أن تكون موجهة نحو هدف التضامن الحق لخير الأفراد والجميع. في هذا الإطار لا بد من التطلع إلى العولمة كسانحة مؤاتية لتحقيق خطوات هامة في محاربة الفقر وتوفير موارد للعدالة والسلام لم تكمن حتى الآن في الحسبان”. ولذا لا بد من اعتبار اتساع القضية الاجتماعية على الصعيد العالمي “ليس فقط بمعنى الاتساع الكمي إنما أيضا بالتعمق في مفهوم الإنسان واحتياجات العائلة البشرية”.
وفي الختام ذكر الأب الأقدس بأن الكنيسة لطالما واكبت باهتمام ظواهر العولمة الحالية وتأثيراتها على أشكال الفقر الإنساني مقدمة مبادئ العقيدة الاجتماعية مثل “الحب المفضِّل للفقراء” في ضوء أولوية المحبة التي شهد عليها التقليد المسيحي بدءًا من الكنيسة الأولى.