إعداد الأب الياس جانجي
روما، الثلاثاء 13 يناير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الأول من دراسة الأب الياس جانجي حول موضوع “الفكر الإسكاتولوجي للكنيسة الكاثوليكية مع مقارنته لبعض أفكار أوريجانس”.
* * *
المقدمة
إن أسطورة التقدّم الحاليّة، التي غذتها الحضارة التقنيّة والتي ما زالت تغذي العديد من الأحلام البشريّة حاولت أن تحل لغز الموت الذي لا يزال يقض مضجع الإنسان، هدفها من كل ذلك أن تلغي كل اعتقاد بوجود شيء ما بعد الموت: فالطب مثلاً يحاول أن يؤخر الموت قدر المستطاع وهذا ما يسمونه “التكالب على العلاج” (acharnement thérapeutique) وهو يقوم على حفظ المريض في قيد الحياة إلى أقصى الحدود وأحيانًا بتجاوز الحد المعقول بواسطة الطرق الإصطناعيّة. إلا أن هذه الحضارة أفرزت خيبات أمل متتالية، ولم تستطع حتى اليوم أن تريح الإنسان من قلق الموت ولا من قلق ما بعد الموت. فما هو مضمون رجائنا بعد الموت، وإلى أي أساس يستند؟
في هذه الدراسة سنحاول أن نجيب على بعض الأسئلة المتعلقة بالأمور النهيويّة، أي المختصّة بالماورئيّات وكل ما تتضمنه من مواضيع كالموت والقيامة والحياة الأبديّة والسماء والمطهر وجهنم وغيرها، مع عرض سريع لفكر أوريجانس الاسكاتولوجي. همنا من خلال هذه الدراسة ليس المعلومات العامة فقط بل أيضًا تقديم مفهوم مسيحي لاهوتي لكل هذه المواضيع، وإعلان الرجاء لإنسان اليوم المملوء باليأس وبخيبات الأمل التي يختبرها في حياته اليوميّة.
لهذا لا بد لنا من إعطاء توضيح محدد لكلمة الإسكتولوجيا أو الأخيريّة أو النهيويّة، فهي كلمة منحوتة من الأصل اليوناني (eschatologie)، تدل على معرفة الحقائق الأخيرة. وبالمعنى الحصري تعني هذه الكلمة نهاية الأزمنة والدينونة الإلهيّة وعودة المسيح. ولكن بما أن الأبديّة حاضرة منذ الآن بفضل قيامة المسيح، فغالبًا ما تعني الإسكتولوجيا حضور المسيح القائم من الموت في عالمنا، وكل ما ينتج عنه، ولا سيما حضور الروح القدس على وجه فعال، بصفته يحول الإنسان منذ الآن بالنعمة، ويحول غير الإنسان، الكون كله. وبهذا المعنى فالإسكتولوجيا هي حاضرة منذ الآن في العالم، ولكنها ليست تامة بعد. لذلك فإننا أعطينا عنوانًا آخر لِهذا الموضوع وهو “الحياة الدائمة مع المسيح”، هذه الحياة التي تبدأ على الأرض وتستمر في الأبديّة.
أولاً: فكر أوريجانس الإسكاتولوجي
ـ حياة أوريجينوس[1]: وُلد أوريجانس سنة 185 من عائلة مسيحية ميسورة في الإسكندرية، تابع دروسه في معهد الاسكندرية الشهير على يدّ إكليمنضوس الاسكندري، لما اشتدت عمليات الاضطهاد التي قادها سبتيموس ساويروس سيق والده إلى الاستشهاد، فهب الابن الشاب لمرافقة والده والاستشهاد معه، إلا أن تدخل والدته عارض هذه الفكرة. سعى أوريجانس بفضل ثقافته لتأسيس مدرسة مستقلة، وأوكلت إليه فيما بعد مهمة تعليم وتهيئة طالبي العماد. لكنه ما لبث أن تخطى هذا الإطار ليرئس مدرسة الديداسكالي التي كانت انطلاقة حياة أوريجانس وشهرته. سنة 250 اشتعلت جذور الاضطهاد بقيادة الإمبراطور داقيوس. فكان أوريجينوس من عداد المستهدفين. إلا أنه توفي في مدينة صور بعد أن عانى الأمرّين من العذابات.
فكره: تحدث أوريجانس عن مسألة النهايات (الإسكاتولوجيا) في معرض كلامه على الخلائق عامة، وفعل ذلك أيضاً في معرض كلامه على المادة، أما هنا هو يخصّ الإنسان بالذكر. فكان لا بدّ من ذكر تعليم الإيمان الموروث في أيامه. فيفتتح الجدل في مسألة البعث، ثم يتناول موضوع العقاب، ويأتي آخراً إلى الكلام عن المواعيد التي وعد الله بها الإنسان. ولكن هذا الأخير لا يستطع أن يبقى ثابتاً ومؤمناً بهذه المواعيد طالما تتقاذفه أمواج الحياة.
ينطلق أوريجانس في حديثه عن الحياة الخالدة من بديهية تُعتبر أساس كلّ تفكير فلسفيّ ولا سيما المذهب الوجوديّ، حيث يأخذ «وجود» الكائن البشريّ بالدرجة الأولى، وذلك بتأكيد ضرورة الحركة لدى الكائنات الحية، وبالأخص لدى الإنسان. فيطرح ثلاثة أنواعٍ من النشاطات البديهيّة التي يفعلها أحياناً: الأول سخيف، والثاني حسن، والثالث يُعتبر جيداً لِـ «وجود» الإنسان. فهو تارة صريع الملذات؛ وهو طوراً شغف بخير الجماعة، فيجري في طلب الإصلاح؛ وهو طالب يسعى في كشف الحقيقة والسعي إليها. يعتبر هذا العمل الأخير أساس غاية وجود الإنسان، حيث أنه يسعى إلى أن «يدرك ما وراء الوقائع الجسميّة» أي أن يبذل جهداً بشرياً لكي يعرف نفسه والله. وبالتالي فإن هذه المنهجية في التفكير التي تُدعى بـ «الفلسفة» تُكسب الإنسان معرفة غاية وجودّية. فمعرفة حقيقة الأشياء تبدأ من عللها وطبيعتها. ولذلك ينطلق أوريجانس من دراسة نمط العيش ومستواه ليبحث في «عين الحياة» أي في الحياة الخالدة. فتكون الغاية في بحث جدّي عن حالة الإنسان في «الحياة الحقة»، حيث أنه إذا كانت حالة الإنسان على ما سبق وصفه، أتكون حاله كذلك في «الحياة الحقة»، أي في المسيح.
فيما يلي يأتي ذكر أصحاب البدعة الألفية[2] وهم الذين يماثلون عالم الآخرة بعالم الدنيا، حيث أنهم يناشدون بضرورة إتمام الملذات الجسدية متشبّثين بمعنى الشريعة الحرفيّ على نحو سطحيّ. فيذكر بذلك أولئك الذين يتوقون لأن يجدوا لهم في القيامة جسداً لحميّاً
ثانياً، يتيح لهم الإقبال على المأكل والمشرب وعلى كل فعل يمتّ بصلة إلى اللحم والدم. ويتأملون عقد الزواج وإنجاب البنين بعد القيامة أيضاً. ويشدد على ذلك مؤكداً على ذكرهم آيات من الكتاب المقدس، فيضمنون لأنفسهم الخدمة المريحة، ويحسبون بأنهم سوف يتسلمون خيرات الأمم. فبالتالي يريد أصحاب هذه البدعة في هذه الفانية ما يرجونه من تمام المواعيد.
بعد ذلك يتكلم أوريجانس عن العلم الذي يتلقاه الناس، وعن المعرفة الناقصة التي يغادرون بها الحياة. فإذا كانت مرفقة بأعمال صالحة، فيتهذبون في أورشليم السماوية. كل ما يكون الإنسان قد قاساه على هذه الأرض بجرأة وتقوى من معارك فهو سيصيب في العلى معرفة أسمى، لأن الإنسان لا يحيا من الخبز وحده، وإنما من كل كلمة تخرج من فم الله أيضاً.
يبدأ أوريجانس بتفسير مواعيد الله لأصحاب البدعة الألفية تفسيراً روحياً، ينأى عن الإسفاف في الرؤية. ويضرب في سبيل ذلك تشبيهاً: المعجب الذي أخذت منه الدهشة مأخذاً إزاء تحفة عاينها، تغلو به حميته ويدفع به الفضول لكي يعلم أسرارها، ويعلم بحكمة صانعها. كذلك سيصير بالخليقة متى صار مآلها إلى الحياة الأخرى. فإنها تعبر الحيز تلو الأخر وهي ترتوي من معرفة أسرار الله، دون كلل ولا شبع. وهي ستستمر بالصعود في سلم المعرفة حتى تمسي كلها إدراكاً ومعرفة، مستعيدة حال كونها الأول. فإذا سارت إلى هذه المرتبة من المعرفة الباسقة في سموها، المنيعة على قوى التيه والضياع، أمكنها حينئذ من التأمل في حقيقة الله، والارتياح إلى معرفته؛ فتلبث فيه. ويعطي أوريجانس أمثلة أخرى عن معرفة أسباب عمل الله. وبعدها ينتقل إلى الكلام عن المعرفة بعد الموت ويستشهد بقول أحدهم: «إني واقع بين أمرين، إذ بي رغبة لكي أموت فأكون مع المسيح، وهذا لأفضل إلي جداً»[3]، وذلك ليبين عن المعرفة التي تلي الموت، معرفة الأحياء والأموات.
إن فكرة الخلاص عند أوريجانس محاطة بفكرة الخلق الجديد، حيث أنه عودة إلى حالة النقاء الأولى. وقد استقى تفكيره من فكر القديس بولس في رسالته إلى كورنثوس[4]: «ومتى أخضع له كل شيء، فحينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء، ليكون الله الكل في الكل». فالكمال الذي يترجى هو واحد، فُقدت صورته بالخطيئة، فأعادها المسيح إلى سابق عهدها. وفي هذا لا يستثني أوريجينوس أحداً بل يعتبر أن الكلام مطبق على كل كائن، الشيطان كان أم الموت، أم الخطيئة. كما أنه لا يميز بفكره بين صيرورة المخلوقات إلى حالها بفعل قواها، وإخضاعها لله بفعل المسيح فيها. كذلك، ليست حالتها عند حصول الخلاص لها مساوية لحالها وهي موجودة عند الله
من خلال ما سبق نستطيع أن نستنتج فكر أوريجانس حول الآخرة[5]:
1. المعاودة (الإعادة الشاملة إلى الوضع السابق): يتحدث أوريجانس عن نوعين من النفوس، فالتي أخطأت على هذه الأرض ستُطهر بالنار بعد موتها، أما نفوس الأخيار فستدخل إلى الفردوس، حيث سيأتي الله ويحل جميع المشاكل العالقة في الكون. وسينال جميع الخاطئين الخلاص. أما الشياطين وإبليس نفسه فسيطهرهم الكلمة (اللوغوس). وبعد أن يتم ذلك، يكون مجيء المسيح الثاني، ثم قيامة جميع البشر، في أجساد غير مادية، بل روحية، فيكون الله كل شيء في الجميع. «وستتم نهاية العالم والانقضاء الأخير، حين يكون كل واحد قد تحمل عقاب خطاياه. والوقت الذي يجازي الله فيه كل واحد بحسب استحقاقاته لا يعرفه إلا الله. ورأينا أن عطف الله سيعيد، بمسيحه، جميع المخلوقات إلى نهاية واحدة، حتى أعدائه، بعد أن يكون قد استمالهم وأخضعهم»[6]. فالإنسان حين يعود إلى المسيح سيعرف أسباب كل أمر يجري على وجه الأرض، بما له شأن بالإنسان وبالطبيعة وعلم الإلهيات.
2. وجود النفوس السابق: يعتقد أوريجانس بأن الله قد خلق كل النفوس في البدء، حيث أنها كانت متساوية ومتحدة في مشاهدة الثالوث. لكن وبسبب بعض الثقل الذي استولى عليها بردت همتها في المشاهدة، فسقطت وابتعدت عن الله وعن بعضها. فالفرق بين هذه النفوس أي بين الملائكة والبشر، لا يعود إلى فرق في الطبيعة، بل إلى اختلاف في التأهب الباطني. فالمادة ليست سبب سقوط الأرواح بل نتيجته. عند هذا السقوط قام الله بخلق طبيعة أخرى، وهي الكون الحسي الذي يتيح للطبائع الناطقة المتجسدة أن تستعيد عن طريق المحنة صفائها الأصلي. ولهذا من الضروري وجود عدة عوالم يختلف بعضها عن بعض، حيث أن تطهر الأرواح لا يمكن أن يتم بإقامة واحدة في العالم الحسي، ذلك بأن بعض الأرواح يزيدون سقوطهم سوءاً، ومنهم من ينهضون بوجه غير كامل.
في الأصل خلق الله عدداً معيناً ومناسباً من الأرواح، من صفاتها أنها مفطورة على الحرية[7]. لكن الله يستطيع أن ينتصر على الأرواح الشريرة ويستطيع أن يردها إلى نفسه، فتصبح إرادتهم الشريرة إرادة صالحة. فالنهاية الأخيرية ستكون مطابقة للأصل. هذا المبدأ هو من مبادئ أوريجانس الأساسية: «النهاية ستجدد البداية، ومنتهى الأشياء سيرد إلى بدئها، وبذلك يستعاد الوضع القديم الذي نالته الطبيعة الناطقة، حين لم تكن بحاجة إلى الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. وكل شعور بالخبث سيبعد ويغسل فيصبح صافياً وطاهراً، والذي هو الله الصالح يصبح وحده كل شيء لتلك الخليقة الناطقة…، فعلينا إذاً أن نعتقد أن جوهرنا الجسدي كله سيرد إلى هذا الوضع، حين تعاد جميع الأشياء إلى الوحدة ويكون الله كل شيء في الجميع»[8]. وبالتالي فإن جهنم ليست أبدية، إذا إن الله سينتصر ف
ي النهاية على جميع أعدائه. فليس هناك عقاب، ما عدا العقاب الذي يداوي والذي من شأنه أن يمكن إصلاح المذنب وندامته. أدان المجمع القسطنطيني الثاني عام 553 أوريجانس وشجب المذهب الأوريجيني.
[1] هنري كريمونا، أوريجانس عبقري المسيحية الأولى، موسوعة المعرفة المسيحية، آباء الكنيسة، دار المشرق، بيروت، 1991، ص 7 – 13.
[2] الألفية هي المعتقد القائل بأن الأبرار القائمين من الموت، في نهاية الأزمنة، سيملكون في الأرض مع المسيح مدة ألف سنة. ويكون هذا الملك بين مجيء المسيح الثاني والقيامة من جهة، والقيامة العامة والدينونة الشاملة من جهة أخرى. عن دراسة في الإسكاتولوجيا، ص 26.
[3] في 1: 23. أنظر 1 -7- 5.
[4] 1كور 15: 28.
[5] الأب أوغسطين دوبره لاتور، دراسة في الإسكاتولوجيا، نقله إلى العربية الأب صبحي حموي اليسوعي، دراسات لاهوتية، دار المشرق، بيروت، طبعة أولى، 1994، ص 32- 35.
[6] في المبادئ، 1، 6، 10.
[7] هذه المخلوقات، بحسب أوريجانس، تستطيع أن تبتعد عن الله وأن تخطأ، حيث أنه بإمكانها أن تسقط من قمم الخير إلى أعماق الشر.
[8] في المبادئ،3، 6، 3.