إعداد الأب الياس جانجي

روما، الأرابعاء 14 يناير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من دراسة الأب الياس جانجي حول موضوع "الفكر الإسكاتولوجي للكنيسة الكاثوليكية مع مقارنته لبعض أفكار أوريجانس".

* * *

ثانياً: المجيء الثاني والدينونة

 

نعلن في قانون الإيمان أن يسوع الذي مات وقام وصعد إلى السماء سوف يأتي من جديد ليدين الأحياء والأموات. هذا ما يدعوه التقليد الكنسي "المجيء الثاني"، بالنسبة إلى المجيء الأول أي إلى الزمن الذي قضاه يسوع على الأرض. ماذا يعني الإيمان بالمجيء الثاني ؟

لقد جاء المسيح أولاًَ مرسلاً من قبل الله، مخلصًا ومنقذًا العالم: »فلقد احب الله العالم حتى أنّه بذل ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبديّة«[1]. والقديس بولس يؤكد: «إن الله قد برهن على محبته لنا بأن المسيح قد مات عنّا ونحن بعد خطأة . فكم بالأحرى وقد بررنا الآن بدمه، نخلص به من الغضب»[2]. المجيء الثاني هو ترقب ما سيصنعه الله للعالم في المستقبل على ضوء ما صنعه لأجله في الماضي. في مجيء يسوع الأول وفي كل أحداث حياته وموته أظهر لنا الله محبته ظهورًا خفيًّا وجزئيًّا في بقعة من الأرض وفي قلوب عدد يسير من المؤمنين. إيماننا بالمجيء الثاني هو الإيمان بأن تلك المحبة ستظهر ظهورًا علانيًّا نهائيًّا شاملاً. مجيء المسيح الثاني يعني لكل من يؤمن بيسوع، الانتصار على الموت، ورجاء حياة تكتمل فيها الحياة التي نقضيها على الأرض[3].

لكن المجيء الثاني هو أيضًا دينونة.

من سيدين الإنسان في المجيء الثاني ؟ وما هو مضمون هذه الدينونة ؟

يظهر لنا من خلال العهد الجديد أن الله الآب سيدين العالم[4] . (روما 2 / 3 – 13) (متى 6 / 4 ، 6 ، 15 ، 18) ، أو يسوع المسيح  ( متى 25 / 31 – 33) (متى 13 / 40 – 42 ؛ 7 / 21 – 23) (1 كور 4/5) (2 كور 5/10). أو حتى الرسل والقديسون (متى 19/28) (1 كور 6/1-3). ولكن في إنجيل يوحنا تأخذ الدينونة طابعًا ذاتيًّا. فالإنسان هو الذي يدين نفسه برفضه كلمة المسيح: «إن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم. فمن آمن به فلا يدان، ومن لا يؤمن به فقد دين، لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد». ثم يتابع إنجيل يوحنا معرفًا بمضمون الدينونة: «وعلى هذا تقوم الدينونة : أن النور جاء إلى العالم ، والناس آثروا الظلمة على النور ، لأن أعمالهم كانت شريرة . لأن من يفعل الشر يبغض النور ، ولا يقبل إلى البتة إلى النور لئلا تفضح أعماله . وأمّا من يعمل الحق فإنّه يقبل إلى النور ، لكي يثبت أن أعماله مصنوعة في الله»[5].

إن المسيح لم يأت للدينونة بل للخلاص. فمن يقبل كلامه ويؤمن به يخلص: إنّه منذ الآن في النور. وأمّا الذي يرفض كلامه ولا يؤمن به فقد دين. إن صيغة الماضي التي يستعملها يوحنا تعني أن الدينونة تبدأ منذ هذه الحياة بمجرد رفض الإيمان بالمسيح الذي نجد صوته في ضميرنا بالفطرة. فالإنسان إذًا هو الذي يدين نفسه بانفصاله عن المسيح وعن كلامه. وهكذا يتضح لنا أنّه لا تناقض بين إسناد عمل الدينونة إلى الله الآب أو إلى المسيح أو إلى الرسل والقديسين، أو إلى جميع المسيحيين، لأن الحقيقة هي التي في الواقع ستدين العالم. والحقيقة واحدة: إنّها حقيقة الله التي يحملها يسوع، كلمة الله، في كيانه وفي تعاليمه، والتي آمن بها الرسل والقديسون وجميع المسيحيين وعاشوا بموجبها. من هنا نستطيع أن نحدد الدينونة على أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته أولاً ثم لدى موته أخيرًا، يواجه الحقيقة التي تدعوه إلى التزام الخير. ودينونته تبدأ على هذه الأرض في موقفه تجاه الحقيقة التي هي الله نفسه، هذه الحقيقة التي ستدين العالم في نهاية الأزمنة قد أتت في الزمن لتخلص العالم، وقد أعطت ذاتها حتى الموت في سبيل هذا الخلاص. لذلك فإن الدينونة، هي أولاً عمل محبة وخلاص لأنّنا لا نستطيع الفصل بين مجيء المسيح الأول وموته وقيامته ومجيئه الثاني؛ إنها مراحل متعددة من سر واحد هو سر محبة الله التي تنسكب على الإنسان لتمنحه الحياة والفداء والخلاص. والدينونة ترافق كل مراحل هذا السر[6]. إن الإنسان، لدى موته، يواجه الحقيقة مواجهة صريحة لا مواربة فيها. عندئذ تنزع عن عينه الغشاوة التي كانت تفسد أمامه الرؤية، ويسقط من أمام وجهه القناع الذي كان مستترًا وراءه، فينكشف كما هو أمام الحقيقة، تلك ستكون دينونته. وهذا ما يصفه أحد اللاهوتيين المعاصرين بلغة وجوديّة فيقول: «إن مجرد انتصار الخير على الشر يكون الحكم الساحق على الذين يمارسون الشر. إنهم قد أخطأوا هدفهم. وحياتهم التي فقدت معناها، قد آلت إلى العدم. إن عبث حياة قضيت في الشر هو أسوأ عقاب ... إن إدراك الإنسان ذاته قد سقط في أقصى العبث وغرق في العدم والتلاشي. ذاك هو مصير الذين يرفضون محبة الله ويرفضون دعوته إلى الحياة».

يرى معظم اللاهوتيين[7] اليوم أن المجيء الثاني سيتحقق لكل إنسان في ساعة موته، لأنّه إذ ذاك يلاقي المسيح. هذه النظريّة ممكنة ولكن شرط ألا ننسى أن المجيء الثاني لا يحقق فقط مصير كل إنسان، بل نعني أيضًا اكتمال تاريخ البشر في المسيح. ويمكننا أن نحل هذه الإشكاليّة أنّه بعد الموت نخرج من إطار الزمان والمكان، فكل زمن هو حاضر، وأنا بموتي معاصر لمجيء المسيح لكل البشر.

المجيء الثاني هو العمل الأخير الذي سيقوم به الله خاتمًا به سلسلة أعمال محبة بدأها بخلق العالم وتتالت عبر التاريخ وبلغت ذروتها في تجسده وفي حياته على الأرض وفي موته وقيامته. الله محبة، وقد ظهرت هذه المحبة في العالم والتاريخ، وستظهر ظهورًا نهائيًّا في كمال العالم والتاريخ. إيماننا بالمجيء الثاني هو يقيننا أن العالم لن يجد ملأه بقوّته الذاتيّة، والتاريخ لن يجد اكتماله بتطور شرائعه ونواميسه. فالعالم والتاريخ بحاجة إلى قوة تفوقهما وتمنحهما الملء والكمال[8].


[1] يو 3 / 16

[2] روما 5/8

[3] الأب سليم بسترس، اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر،  سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، رقم 4، المطبعة البولسية، 1995، ص 332.

[4] المرجع السابق نفسه، ص336 - 340

[5] يوحنا 3 / 17 – 49

[6] مجلس أساقفة كنيسة ألمانية، المسيحية في عقائدها، نقله من الألمانية إلى العربية المطران كيرلس سليم بسترس، الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، رقم 18، المطبعة البولسية، 1998، ص 318.

[7] المرجع السابق نفسه، ص 472.

[8]تيودول ري- مرميه، نؤمن، تعريب الخوري يوسف ضرغام، منشورات قسم الليتورجيا في جامعة الروح القدس، رقم 3، الكسليك – لبنان، 1983، ص 420- 421.