الانفصال المأساوي في العصر الوسيط بين اللاهوت والقداسة

التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية (1)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما، الخميس 29 يناير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الأول من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.

* * *

“يجب على معلم الإيمان المسيحي أن يعرف كيف يلمس كل إنسان في عمق دعوته ووضعه الشخصي، لكي يتمكن كل إنسان أن ينمي معرفته للإيمان بشكل مسؤول وأن يطابق حياته مع إيمانه” (تجديد التعليم المسيحي، عدد 41).

إن اعتبار التعليم المسيحي كمسألة وجودية، مسألة عيش مع الله وفي الله، وليس فقط كمسألة نقل معلومات حول الله، هو ضرورة ترتبط بها فعالية نقل خبرة الإيمان المسيحي، نقل “وديعة الإيمان” التي يتحدث عنها القديس بولس. ولذا نود أن نكرس فسحة للتفكير في المفهوم العميق للتعليم المسيحي عبر ربط أبعاد ثلاثة ضرورية تشكل فسحة وجود وتنفس هذه الخبرة: اللاهوت، القداسة والأبوة الروحية.

يقول الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد (Kierkegaard): “أستاذ اللاهوت [أو أي معلم للدين المسيحي] هو شخص يعلّم لأن آخر صُلِب”.

كلنا يعرف أن كيركغارد كان من دعاة “قفزة الإيمان” ما وراء حدود العقل، ومن دعاة “الإيمان الفردي”، ولكن مقولته لا تخلو من المعنى؛ تقدم لنا هذه العبارة اللاذعة فكرة عن تفاهة تعليم الدين المسيحي كمجرد واقع موضوعي، تاريخي، حدث في الماضي ولا يمت إلى حاضري بأية صلة. وتعبر عن كآبة موقف من يتحدث بكل ارتياح ووسط تصفيق الجماهير عن إله صلب وتألم وتعرض للرفض. الثرثرة بشأن الله أمر تافه إذا لم يكن ذلك يعني في نفس الوقت عيش عميق ووجودي للخبرة المسيحية، دخول في توق الله المتيّم الذي عبّر عنه على الصليب.

معلم الإيمان المسيحي الحق هو شخص، لا يتكلم عن الله، بقدر ما يترك لله المجال أن يسرد فيه ومن خلاله قصته، “الدراما الإلهية” (كما أسماها اللاهوتي الكبير هانس أورس فون بالتازار في القسم الثاني من ثلاثيته اللاهوتية الكبرى).

 

أولاً: الانفصال المأساوي بين اللاهوت والقداسة

إن “الطلاق” بين اللاهوت والقداسة الذي عاشته الكنيسة على مدى عصور طويلة هو واقع “مأساوي” لأنه فصل أدى إلى انحطاط إن من ناحية فهم الإيمان وإن من ناحية عيشه. ولكن قبل أن نلقي نظرة إلى أسباب الانفصال التاريخي بين اللاهوت والقداسة، لا بد أن نقدم بعض المعاني التي توضح محتوى هذين الواقعين.

اللاهوت يتعلق بمحتوى الإيمان (Fides quae creditur)، بفكر الإيمان (intellectus fidei)، بالقبول العقلي والعقلاني والوجداني للإيمان، بالاعتراف الإيماني القويم (ortho-doxa)…

القداسة تتعلق بفعل الإيمان (Fides qua creditur)، باعتراف الإيمان (confession fidei)، بالقبول الإرادي والوجودي لعيش الإيمان، بالعيش الإيماني القويم(ortho-praxi).

إذا ما نظرنا إلى هذه الصفات لوجدنا أن عيش إيمان ناضج وسليم يتطلب كلتي الصفتين. فعيش الإيمان دون فهمه لا يطابق طبيعتنا البشرية العقلانية، وفهم عقلانية الإيمان دون الدخول في وجدان العيش المسيحي لا ينفع شيئًا، بل يضحي نوعًا من فلسفة برجوازية لا تجدي نفعًا. صدق كاتب “الاقتداء بالمسيح” عندما قال: “لا ينفعك شيئًا فهم الثالوث الأقدس إذا خلوت من التواضع الذي يجعلك مرضيًا لدى الثالوث”.

1.    نظرة تاريخية

1.1.        العصر الوسيط

يتحدث اللاهوتي السويسري فون بالتازار في مقالته “اللاهوت والقداسة” عن “حجر عثرة” يتمثل بالانفصال بين اللاهوت والقداسة. ويصرح بالتازار أن اللاهوت والقداسة كانا يسيران يدًا بيد حتى العصر الوسيط، بحيث كانت شخصية اللاهوتي تلازم دومًا شخصية القديس، والعكس. فكل آباء الكنيسة العظام، مثل إيروناوس، وأغسطينوس، وغريغوريوس النزينزي، وباسيليوس الكبير، وغريغوريوس النيصصي، ويوحنا فم الذهب، كانوا لاهوتيين عظام وقديسين عظام في آن. “آباء الكنيسة” بالواقع هم أولئك الأشخاص الذين تحلوا بهذه الصفات الأربع: القدم، الإيمان القويم، القداسة، وقبول السلطة الكنسية.

ويسعى بالتازار إلى إيجاد أصل هذا الانفصال، فيعتبر أنه يعود إلى اعتناق المسيحيين في العصر الوسيط بعض مفاهيم الفلسفة اليونانية للتعبير عن الحقائق المسيحية، دون أن يقوموا بتعديل هذه المفاهيم بشكل يوافق واقع الإيمان المسيحي.

من بين هذه المفاهيم، هناك مفهوم الحقيقة (aletheia)، التي بدأ لاهتيو العصر الوسيط بوصفها متأثرين بأرسطو بهذا الشكل: “مطابقة العقل للواقع”، “ adaequatio intellectus ad rem “: أي لكي أعي حقيقة أمر ما، لا بد أن أجعل عقلي يطابق واقع هذا الأمر، فيدرك على ماهيته، أي على حقيقته. هذا الوصف للحقيقة المجردة هو صحيح ودقيق جدًا، ولكن لا يمكننا أن نطبقه كما هو على الحقائق الشخصانية، وبشكل خاص على حقيقة الإيمان. ففي العلاقة الشخصانية لا تنحصر “المعرفة” على “الحقيقة” (verum) بل تنفتح بشكل ضروري على “الصلاح” (الخير bonum). ويعتبر بالتازار أن لاهوتيو العصور الوسطى أقروا بتواجد الصلاح والحقيقة، إلا أنهم لم يبينوا تداخل الواحد بالأخرى، وعدم إمكانية انفصالهما. ويشرح بأن هذا الفصل “الفلسفي” ينعكس على أرض الواقع فصلاً بين معرفة الإيمان وقداسة الحياة. فالفكر الفلسفي الوسيط يعترف – وكيف له أن ينكره – بمعرفة الإيمان وبقداسة الحياة، إلا أنه لا يرى بوضوح تداخل الواحد في الآخر، وضرورة تواجد الاثنين سوية.

إن نتائج هذا الانفصال عديدة، يسمي بالتازار بعضًا منها مثل “فقدان الترابط الحميم” بين شخصية اللاهوتي والقديس
. وبهذا الشكل قدم لنا العصر الوسيط والعصور اللاحقة – طبعًا مع بعض الاستثناءات حيث جمع لاهوتيون عظام مثل أنسلموس، ألبرتوس الكبير، توما الأكويني، بونافنتورا… بين القداسة واللاهوت– لاهوتيين لم ينتشر أريج قداستهم، ولم تعترف الكنيسة ببطولة فضائلهم رغم اعترافها واستخدامها لثمار فكرهم اللاهوتية والفلسفية. وفي الوقت عينه نجد قديسون عظام، إلا أنهم، خلافًا لآباء الكنيسة، لم يبرعوا في تعليم الإيمان وتعميقه لاهوتيًا.

والنتيجة الأخرى لهذا الفصل هي فقدان صورة ما يسميه بالتازاربـ “اللاهوتي الكلي”، أي اللاهوتي الذي لا يعبر فقط بفمه، بل بكلية كيانه عن جوهر الإيمان. بدأت حقبة صار فيها اللاهوت عقليًا بحت[نود أن نلفت الانتباه على التمايز بين العقلاني (rational) والعقلي(rationalist). فالأول يستعين بالعقل ليسمو به إلى ما هو أسمى، بينما الثاني يخضع للعقل ولا يتخطاه البتة]. يقول بالتازار أنه مع مجيء اللاهوت العقلي، لم يعد اللاهوت لاهوت ركوع (وصلاة) بل لاهوت مكتبة وطاولة أبحاث.

طبعًا لا بد أن يجلس الإنسان إلى الطاولة ليكتب، ولا بد أن يستعين بالكتب والأبحاث، ولكن لا يجب أن يكون هذا على حساب العلاقة الشخصية والمباشرة مع موضوع اللاهوت الذي ليس موضوعًا بالمعنى الحصري للكلمة، بل هو شخص، ومحاور حي.

يقال أن القديس بونافنتورا زار يومًا القديس توما الأكويني، فلم يجد في قلايته سوى قلة من الكتب. وتعجب من هذا الأمر فسأل صديقه: “قل لي، من أي معين غرفت كل هذا العلم اللاهوتي الزاخر؟”، فكان جواب توما: من الرب في القربان المقدس.

وهناك نتيجة أخرى هي نشوء إزدواجية بين اللاهوت العقائدي واللاهوت النسكي أو التقشفي. بالواقع، بينما ركز اللاهوتيون جهودهم على سبر وقائع عقلية مجردة، غير معاشة. نذكر بأن لاهوت الآباء لم يولد في قاعات الجامعات بل خلال الوعظ، وخلال الرد على الهراطقة، وخلال جهد الرعاة لنقل وديعة الإيمان إلى رعيتهم. وبالتالي كان لاهوتًا لا يستطيع أن يغوص في غمر الفكر المجرد، بل كان يتوجه دومًا إلى الواقع الإيماني والحياتي المعاش، وكان يهدف دومًا إلى الحياة الرعوية.

ولكن لما تم الفصل بين اللاهوت والإيمان، بات اللاهوتيون يرفعون عاليًا قصور أفكارهم، وأبقوا المؤمنين مع مكنون إيمان لا يعرفون كيف يشرحوه أو يفهموه. وبهذا الشكل ولد ما عرف لاحقًا بالتقوى الحديثة “ devotio moderna “، مع كثير من الكتب الروحية التي تفتقر إلى مكنون لاهوتي متين.

* * *

– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير