بقلم روبير شعيب
روما، الاثنين 12 يوليو 2010 (Zenit.org). – لقد تحدثنا في مقامات أخرى عن الإلحاد، ولكننا لم نتوقف قصدًا على الكلام عن قراءة روحية لظاهرة عدم الإيمان، أو سوء الإيمان، أو سوء المعرفة الدينية، بغية قراءتها الآن بشكل إزائي مع الإيمان. الإلحاد الحديث له جذور كثيرة، وهو واقع معقد جدًا، ولكننا نود أن نتوقف الآن أن نستعرض الإلحاد إنطلاقًا من تجذره في ما يُعرف بظاهرة الدفاع عن المسيحية، تلك الظاهرة التي قدمت – بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، صورة منقوصة عن الآب، أبي يسوع المسيح وعن الدين بشكل عام، جاعلة منه حجر عثرة (البعد الملموس)، ومن ناحية أخرى، استعملت وسائل متناقضة للدفاع عن الله (البعد النظري). حتى ولو أن البعدين يتلاقيان، سنسعى إلى التمييز بين بعد عملي وبعد نظري لنسهل القراءة، مكرسين انتباهًا أكبر للبعد النظري.
الإلحاد المعاش وصورة الله
“هناك إلحاد خفي في كل القلوب، يمتد في كل الأعمال وهو أن نحسب الله كلا شيء” (Bossuet, Pensées détachées, II).
إن الدستور الرعوي للمجمع الفاتيكاني الثاني “فرح ورجاء” يصرح بأن “الإلحاد، إذا ما نظرنا إليه نظرةً إجماليةً ندرك أن لا مبرر له في ذاته بل في أسبابٍ متعددة، منها ردّةُ فعلٍ مبنية على إنتقاد الديانات، وفي بعض المناطق ردّةُ فعلٍ خاصة تجاه الديانة المسيحية”، ولذلك “قد يكون للمؤمنينَ في نشأةِ الإلحاد قسط غير يسير بقدر ما يحجبون وجه الله الصحيح ووجه الديانة أكثر مما يظهرونه ويكشفون عنه، سواء بإهمالِ العناية بإيمانهم وبعدم تغذيته، أو إظهار العقيدةِ وعرضها عرضاً غاشاً أو بكبواتِ حياتهم الدينية والأخلاقية والإجتماعية” (فرح ورجاء، 19).
فلننظر باقتضاب إلى عناصر ثلاثة يقدمها هذا النص المجمعي، انطلاقًا من البعد الأخير. يسوع كان قاسيًا على من يشكك الصغار الذين يؤمنون به (راجع مت 18، 6 – 7). مرات كثيرة يبدو تصرف المسيحيين كتصرف ضد الله. فإذا كان يسوع قد قال: “يرون أعمالكم الصالحة ويمجدون أباكم الذي في السماوات”، يمكننا أن نستنتج أنه إذا لا نعيش أعمال الإيمان، لا نعطي فرصة لنشأة الإيمان! يجب اعتبار نواقص حياة المسيحيين الروحية، في إطار قراءة ظواهرية، كتعبير عن إلحاد عملي. فبالواقع، كل مرة لا يعيش فيها المسيحي بحسب حقيقة الله، يعيش في الرياء، وينكر الله عمليًا. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم كلمات رسالة يوحنا الأولى (1 يو 3، 6): “كل من يقيم فيه لا يُخطئ؛ من يخطئ لم يره ولم يعرفه” (راجع أيضًا 1 يو 5، 18).
إن إلحاد المؤمنين “العملي” يخفي وجه الله ولا يكشف عنه عندما يعيش كما لو أن الله غير موجود وعندما يعتبر الله كلا شيء، كما يصرح بوسويه. هذا الإلحاد يضحي أرضية مناسبة للإلحاد النظري لأنه كما يقول بورجيه: “عندما لا يعيش الإنسان بحسب تفكيره، يصل إلى التفكير بحسب عيشه”.
إن كلمات مدخل إنجيل يوحنا: “النور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه”، وكلمات يسوع إلى نيقوديموس: “كل من يفعل الشر يكره النور ولا يأتي إلى النور لكي لا تظهر أعماله (يو 1، 5 ؛ 3، 20) يمكن فهمها، إلى جانب كونها تعبير عن قرار شخصي بعدم المجيء إلى النور، كعدم قدرة على خيار النور نابع عن الخطيئة التي تقيد الإنسان، وتجعله سجين دائرة مفرغة من الشر والظلمة (فمن يفعل الخطيئة يضحي عبدًا للخطيئة: راجع يو 8، 34). فالخطيئة تمنع الإنسان من المجيء إلى النور لأن وحدهم أنقياء القلوب يستطيعون أن يروا الله (مت 5، 8) ويستطيعون أن يجعلوا الآخرين يروا الله.
من يتحدث عن الله دون أن يعرفه في حياته وفي خبرته يقدم صورة “غاشة” عنه، كما يقول النص المجمعي المذكور آنفًا، وبدل أن يحبب به، يجعله يبدو مقززًا. تأخذ طابعًا آنيًا ونبويًا كلمات القديس مكاريوس، أب الصحراء، الذي ينقله سمعان ميتافراست في “الفيلوكاليا”: ” من يتفوه بأحاديث روحية دون أن يكون له ذوق وخبرة ما يقول يشبه رجلاً يمر في يوم حر قاتل في الصحراء القاحلة ويبدأ بتخيل نبعًا من الماء الصافي في الأفق، فينكب مستشفًا من ماء هذا النبع حتى الارتواء؛ ويشبه أيضًا رجلاً لم يتذوق البتة طعم العسل، ومع ذلك يسعى إلى يخبر الآخرين عن طيبته. هذا هو الأمر مع من لا يعرف حقًا بشكل شخصي وملموس وقائع الكمال، التقديس واللاهوى، ويريد مع ذلك أن يشرحها للآخرين؛ ولكن لو تكرم الله عليهم بحدس يسير للوقائع التي يتحدثون عنها لعرفوا بالتأكيد أن الحقيقة مختلفة جدًا عما يشرحون. فالمسيحية تتعرض رويدًا رويدًا لخطر أن يساء فهمها وأن تعرف الإلحاد!” (راجع N. Aghiorita – M. di Corinto (ed.), La Filocalia, III, Torino 1985, 308-9).
(يتبع)