بقلم روبير شعيب
روما، الأربعاء 14 يوليو 2010 (Zenit.org). – يشرح اللاهوتي الأرثوذكسي بول أفدوكيموف أن الإلحاد المعاصر هو غير جدلي لأنه يحل مشكلة الله متخلصًا منها قبل أن يطرحها ودون أن يطرحها بجدية. يقول الخبير الروسي في مشاكل الإلحاد المعاصر: “يفتقر الإلحاد المعاصر لعمود فقري، فهو مجرد إلحاد عملي لا يحتوي على أي مكنون ميافيزيقي، ويفتقر شرحًا بناءً وكافيًا للوجود” (P. Evdokimov, “ L’amour fou de Dieu, Paris 1973, 14; Cf. P. Evdokimov, Ages of the spiritual life, Crestwood, NY 1998, 21ss). فماركس، على سبيل المثال، اكتفى بخلق دين بديل، ولكنه لم يتخط الدين-أفيون الشعب. وعليه لم يحل مشكلة الله بل خلق إلهًا آخر، الطبقة العاملة، تمامًا كما فعل فويرباخ الذي ألّه الإنسان، وتبعه في ذلك نيتشه الذي تحدث عن الإنسان المتفوق (Übermensch) إله ذاته ورب مصيره الشخصي. ولهذا، نظرًا لغياب المكنون الإيجابي النظري، تتضمن كل أشكال الإلحاد عضويًا وهيكليًا – بحسب أفدوكيموف – “ضلالاً ووهمًا منهجيًا” (déception systématique). رفض الله لا يأتي نتيجة لبراهين بل نتيجة لموقف متكبر، ثمرة عقل تقني ووسائلي اعتاد أن يسيطر على كل مكنونات أبحاثه، وثمرة أيضًا لمنهج علمي بات يعتبر إيديلوجية (Cf. J. Habermas, Teoria e prassi nella società tecnologica, Bari 1967). لقد سقط الإنسان في ما يسميه ريختر “عقدة الألوهة” (Der Gotteskomplex)، فبات يعتبر ذاته إلهًا، ومن هذا المنطلق، كل ما لا يستطيع تحقيقه بذاته واستيعابه بعقله بات ببساطة غير موجود، غير ممكن الوجود (Cf. H.E. Richter, Der Gotteskomplex. Die Geburt und die Krise des Glaubens an di Allmacht des Menschen, Hamburg 1979. [Il complesso di Dio. Nascita e crisi della fede nell’onnipotenza dell’uomo]).
في هذا الإطار، نجد واقعًا مستجدًا في التاريخ البشري: لم تعد الخبرة الدينية واقعًا بديهيًا وبينًا بحد ذاته. إن الإطار الملحد عمليًا الذي نعيش فيه جعل عيش الخبرة الدينية واقعًا يُختبر كخبرة غياب، وذلك حتى في النفوس الدينية! (Cf. B. Welte, La Luce del nulla. Sulla possibilità di una nuova esperienza religiosa, Brescia 20053, 25; Cf. H.U. Von Balthasar, Dieu et l’homme d’aujourd’hui, Paris 1966).
يصرح الخبير في هذا المجال الفيلسوف برنهارد فلتي (Bernhard Welte) أن العصر الحديث يتميز بغياب خبرة الله، بمعنى أننا لا نستطيع أن نتحدث بشكل واضح عن “حضور لله ولما هو إلهي بشكل عام يستطيع أن يلمسنا مباشرة وبشكل كامل في صميمنا” (B. Welte, La Luce del nulla, 18). ولا يختلف الأمر في خبرة اثنتين من أشهر النساء القديسات في عصرنا: تريز الطفل يسوع، والأم تريزا من كالكوتا (التي سنحتفل في أغسطس المقبل بالذكرى المئوية الأولى لولادتها). في حياة هاتين المرأتين نرى شاهدتين لخبرة واقع قاسي: واقع العدم، وغياب الله. تريز دو ليزيو تقدم خبرتها للعدم كتعاضد حميمي مع معاصريها، و “تجلس على مائدة الخطأة”. يمكننا أن نقرأ سيرة تريز كخبرة تطهير للإيمان عبر الشعور القاسي بغياب الله، على صعيد شخصي وجماعي (Cf. M.P. Gallagher, Help my unbelief, Chicago 1983, 17ss). كذلك الأمر مع خبرة الأم تريزا التي تقارب اللامعقول. فقد نُشرت مؤخرًا رسائل الطوباوية إلى أبيها الروحي، تعترف فيها الأم تريزا بمشاكل الإيمان التي عانتها على مدى سنين طوال.
إن معاصرينا بشكل أو بآخر يعيشون خبرة العدم في صلب حداثة رفضت ما هو متسامي. وعليه فالمجتمع الأوروبي والغربي لا يعيش حضورًا طبيعيًا لله، كما كان يعيشه منذ عصور، وكما تعيشه حتى الآن المجتمعات الأخرى. لقد فقد إلى حد ما الحدس الرفيع لوجود الله، ولم يعد قادرًا على إدراك المعنى الرمزي والدلائلي للكون.
(يتبع)