بقلم روبير شعيب
روما، الجمعة 16 يوليو 2010 (Zenit.org). – إن خبرة غياب الله التي أردنا أن نتفحصها بإيجاز في حياة كبيرتي قديسي عصرنا، هي حاضرة أيضًا في كبار المؤلفين، فعلى سبيل المثال، كان دوستويفسكي نبويًا في حدسه لخاصية عصرنا، الذي أضحى فيه الإلحاد والشك واقعان طبيعيان في الوجدان البشري. تعبّر قصص دوستويفسكي ورواياته عن الصراع المستمر ضد الإلحاد، وشخصياته لا تمثل مجرد ملحدين بل تجسد الملحد الموجود في كل منا، وقد كرس الكاردينال هنري دو لوباك في كتابه “مأساة الأنسية الملحدة (Drame de l’humanisme athée) فصلاً كاملاً لهذا البعد النبوي والعبقري في تحليله لدوستويفسكي، واصفًا إياه بـ “النبي”.
لقد أدرك كبار الأدباء والمفكرين أننا لم نعد نعيش في عالم يشكل صدى للعالم الآخر، فسماؤنا لا تتحدث عن سماوات أخرى أو عن مجد الله، وأرضنا لا تذكّر بالأرض الجديدة. بل هناك خبرة دينية وصفها مارتين بوبر بـ “كسوف الله” (Gottesfinsternis). وفي ملحمة أليوت (T.S. Eliot) الشعرية “ Four Quartets ” نجد كلمات مؤثرة تصور لنا خبرة الكسوف هذه:
“آه، الظلمة، الظلمة، الظلمة. جميعهم يذهبون إلى الظلمة…
ويبرد المعنى ويضيع الدافع إلى العمل.
ونحن نمضي معهم، إلى المأتم الصامت،
مأتم لا أحد، لأن ما من أحد هناك ليُدفَن”.
هذا ولا بد أن نوضح بأن هناك فرق كبير بين “خبرة العدم” و “عدم الخبرة”. فمن يقوم بخبرة العدم – كما يشرح برنهارد فلتي – يقوم بخبرة محددة، أي يلتقي بشيء يؤثر فيه ويقلب ركائز وجوده ويحولها” (B. Welte, La Luce del nulla, 37). ولهذا فالإنسان المعاصر يهرب باستمرار من الوحدة، ففي هذه الوحدة هناك “خطر” اللقاء مع الذات، خطر خبرة الله الذي يقيم بصمت في أعمق أعماقنا (راجع اعترافات القديس أغسطينوس، 3، 6، 11)، الكلمة الصامت الذي يتلفظ به الآب في صمت أبدي، والذي يمكن قبوله فقط في ذلك الصمت عينه، كما يشرح الملفان المتصوف يوحنا الصليب.
وعليه تضحي خبرة العدم مكانًا للقاء بالله في عصرنا، هذه الخبرة التي كانت خاصة بالمتصوفين في الأزمنة الماضية باتت إلى حد ما الطريق الأكثر ارتيادًا في عصرنا. في قلب الظلام الذي يكتنف هذه الخبرة، هناك إنضاج للحياة الروحية والصوفية واللاهوتية، يتحول فيها اليقين إلى ثقة وإيمان في الإله المتستر. وقصيدة أليوت تقدم لنا نسمة من هذه الخبرة، خبرة محررة تفتح على عتبة جديدة تؤدي إلى صحراء، صحراء اللقاء بالله (راجع هوشع 2، 16: سأقودها إلى الصحراء وهناك سأخاطب قلبها). يقول أليوت:
“قلت لنفسي، اهدأي، واتركي الظلمة تكتنفك.
فهذه الظلمة ستكون ظلمة الله”.
وعليه نجد هنا مقاربة بين رفض مفهوم الله (الإلحاد) والإله الذي يرفض ويتخطى كل مفهوم (ما يعرف باللاهوت السلبي). المقاربة لا تجعل منهما أمرًا واحدًا متطابقًا، فالأمران يبقيان مختلفان. ولكن يستطيع الإلحاد أن يلعب دورًا مطهرًا للإيمان الديني، ويذكرنا بدور اللاهوت السلبي الذي يميز لاهوت الآباء الذين يصرون على أن “الله يناقض الله”، أي أن الإله الحق يتجاوز فهمنا لله وصورنا عنه، وصورنا وأفكارنا عن الله تضحي مجرد أصنام إذا لم نتجاوزها باستمرار، كما يشرح يوحنا فم الذهب.
قبل فويرباخ بزمن، قام يوحنا الصليب بتسليط الضوء على الإسقاطات الكثيرة التي تدنس خبرتنا الدينية. ولهذا السبب، يضحي صعود موسى إلى جبل سيناء نموذج الخبرة الدينية في اللاهوت الصوفي (راجع غريغوريوس النيصصي، فيلون الإسكندري، غريغوريوس النزينزي، ديونيسيوس الأريوباجي المنحول). خبرة الله تضحي في عمقها دخولاً في غمامة اللامعرفة (The cloud of the unknowing).
ولكن يجدر التضويح بأن اللامعرفة ليست مرادفًا لاستحالة المعرفة؛ إنها على العكس، وجه آخر من المعرفة، وعدم قدرة العارف على امتصاص المعروف. سر الإله المسيحي لا يعني أنه غموض “حزورة”، بل يعبّر عن واقع يتجاوز قدرتنا على احتوائه بكليته؛ وعليه لا يشير إلى ما لا يُعرف بقدر ما يشير إلى ما لا يمكننا أن ننتهي من معرفته.
خلاصة القول، إن الفرق بين الإنكار الملحد والإنكار الصوفي هو أن الأول يعتبر نفسه محطة أخيرة، بينما الثاني، يعتبر نفسه المحطة ما قبل الأخيرة، قبل الولوج عبر درب آخر، درب المحبة والاتحاد. الإنكار الصوفي ليس خطوة نهائية، بل مرحلة جدلية في درب الخبرة الروحية. يلخص اللاهوتي بافل أفدوكيموف دينامية اللاهوت السلبي بالقول: “بقدر ما الله غير معروف في تسامي كيانه، بقدر ذلك يمكننا اختباره في دنو كينونته المباشر” (P. Evdokimov, L’amour fou de Dieu, Paris 1973, 26-7)، وهنا نجدنا أمام جوهر الإلحاد الذي لا يركز على عدم وجود الله، بل على عدم حضوره لأجلنا. فمشكلة الملحد هي أن الله – أموجودًا كان أم لا – ليس حاضرًا وفاعلاً في حياته، أقله انطلاقًا من قراءة هذا الملحد لخبرته ولوجوده. اللاهوت السلبي يشفي من إنكار ورفض الإلحاد، ويُدخلنا في مجال اللامعرفة، بيئة اللقاء والحب، لأن اللاهوت السلبي، الذي يهتدي بالحب، يميز ويتعرف على حضور الله حتى في غيابه.