بقلم روبير شعيب
روما، الثلاثاء 20 يوليو 2010 (Zenit.org). – لعل إحدى أسباب الرفض التي يلاقيها العرض المسيحي لله تنتج عن السهولة التي نتحدث فيها عن الله، بحيث أصبح مفهوم الله حفنة من المفاهيم البالية غير الاختبارية. لا بد للاهوت المسيحي أن يستعيد العنصر السلبي والصوفي في حديثه عن الله. هذا الإرث الذي يتجلى انطلاقًا من العهد القديم، بحيث لا يجوز التلفظ باسم الله الرباعي، وحيث يوقن المؤمنون بأنهم لا يستطيعون أن يروا الله دون أن يموتوا، وجل ما يستطيعون أن يروه هو، رمزيًا، الله من الخلف (راجع خر 33). أشعيا يتحدث عن الرب كإله خفي وغامض – Deus Absconditus – (راجع أش 45، 15). العلاقة بالله تفرض على المؤمن أن يعانق وجه الله الغامض والخفي هذا، وأن يرى إشعاعه في وجوده المخلوق على صورة الله. فرسالة بطرس الأولى تتحدث، بإزائية مع آية أشعيا عن “إنسان القلب الخفي” – absconditus cordis homo – (راجع 1 بط 3، 4). الإنسان، كما تبين لنا مختلف العلوم الإنسانية هو مثل أيسبرغ نرى منه فقط القمة، بينما يختفي أكثر من 90 % منه في المياه الداكنة. ولذا فالمسيرة اللاهوتية هي كما حدسها القديس أغسطينوس (Noverim me, noverim te) مسيرة اكتشاف لله واكتشاف للذات في الخبرة الصوفية حيث ينادي غمرنا غمر الله (Abyssus abyssum invocat)، والخبرة الدينية تتجسد في الجو الإلهي القائم بين هذين الغمرين.
معرفة الله لا يمكن أن تكون إلا صوفية، حيث يكون الكشف عن الله في الوقت عينه نوعًا من التستر والحياء.
هذا العنصر الصوفي نجده أيضًا في العهد الجديد الذي يصل إلى مستويات تتخطى العهد القديم. يظن البعض أن التصوف المسيحي نشأ في مرحلة لاحقة على الزمن الرسولي، مع القديس غريغوريوس النيصصي. فألبرت شفايتر (A. Schweiter) يعتبر أن التصوف البولسي هي فقط صوفية اسكاتولوجية (أخيرية)، إذ في هذا العالم نرى فقط كما في مرآة (راجع 1 كور 13، 12). بالطبع التصوف البولسي هو أخيري، يتوق إلى الاكتمال مع مجيء المسيح بالمجد، ولكن كما يشرح لويي بوييه: “هناك استباق حقيقي لحياة القيامة في الحياة الروحية التي تفتتحها المعمودية والتي يعتنقها الإيمان. وعليه، هناك تصوف بولسي آنيّ ويمكننا أن نسميه على حد سواء: تصوف الرح أو تصوف القيامة” (L. Bouyer, La Spiritualité du Nouveau Testament et des Pères, Paris 1960, 98-9). فعندما يقول بولس في أعمال الرسل (17، 28): “فيه نعيش، نتحرك ونكون”، لا يعبر عن مجرد تصوف اسكاتولوجي للعالم الآتي، بل عن تصوف الحاضر. ويصرح رسول الأمم أيضًا: “لست أنا من أحيا بل المسيح حي فيّ، وهذه الحياة التي أعيشها في الجسد، أعيشها في إيمان ابن الله الذي أحبني ووهب ذاته لأجلي” (غل 2، 20): هذه الآية هي تعبير عن تصوف بات حاضرًا وليس مجرد انتظار لحالة مستقبلية. ففي المعمودية نحن نلبس المسيح في آنيتنا (راجع غل 3، 28).
إلى جانب اللاهوت البولسي، الذي يشكل باكورة كتابات العهد الجديد، لا يمكننا أن نغفل اللاهوت الصوفي المتين الذي نجده في الكتابات اليوحنوية. فكل حديث يوحنا عن الحقيقة-المسيح، وعلاقة المؤمن بهذه الحقيقة ما هي إلا تعبير عن كينونية وصيرورة صوفية للمسيح في الله-الحقيقة، وإقامة في وصاياه وحبه لعيش الوحدة الصوفية معه. جميع اللقاءات التي يعيشها يسوع في إنجيل يوحنا تحمل من يلتقي بيسوع إلى مستوى أعمق وأحقّ في العلاقة الدينية، مستوى الاتحاد بالله. الكتابات اليوحنوية لا تتضمن برنامجًا أخلاقيًا أو عقائديًا، بل لاهوتًا صوفيًا، وفي قلب هذا اللاهوت الصوفي نجد كل المكنونات العقائدية والأدبية (Cf I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, II, 662-3).
فقط من خلال “كينونتنا في الحق” (ek tes aletheias einai)، وفي إقامتنا في الحق (menein)، وفي عبادة الله في الروح والحق (راجع يو 4، 23 – 24؛ 18، 37؛ 1 يو 2، 21؛ 3، 19)، نتلقى الدعوة لكي “نفعل الحق” و “نسير في الحق” (peripatein en te aletheia) وأن “نحب الإخوة في الحق” (راجع 2 يو 1 . 4؛ 3 يو 1. 3. 4).