الإيمان واللامعرفة: نظرة لاهوتية

انفتاح الشخص البشري على الحب (8)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما،  الأربعاء 21 يوليو 2010 (Zenit.org). – إنطلاقًا من النظرة البيبلية السريعة التي قدمناها في المقطع السابق، يمكننا أن نستخلص أن التصوف ليس أمرًا مضافًا على المسيحية، بل هو جزء طبيعي من خبرة الإله المسيحي. لا بل إن الكاردينال هنري دو لوباك يشرح أن خبرة الله لا يمكن أن تكون إلا صوفية ويقول: “وحدها الخبرة المسيحية هي صوفية بالمعنى الحصري!” لأن التصوف (mystica) يرتبط بخبرة سر (Mysterium) حب الله الذي يكشف عن ذاته في يسوع المسيح، في الحب الذي يفرغ ذاته ويهب ذاته في تواضع الخليقة وصولاً إلى الموت، موت الصليب (راجع فيل 2، 8)، ويبلغ ملئه في القيامة التي هي انقطاع سردي في التاريخ البشري، لا يصفه أحد من الإنجيليين الأربعة كحدث يجري في تفاصيله، بل كواقع يتجلة بشكل غير مباشر من خلال الحجر المزال والقبر الفارغ. وعليه فالانفعالية البشرية هي واضحة في هذه الخبرة، وتشكل جزءًا متكاملاً مع فعل الله الذي يُقبل من خلال الإصغاء والعيش. التصوف في جوهره العميق هو عيش لاتحاد الحب مع الإله المثلث الأقانيم، اتحاد يتم في يسوع المسيح بفضل نعمة الروح القدس (H. De Lubac, Mistica e mistero cristiano, Milano 1979, 7-8). الخبرة الصوفية، والخبرة الروحية تأخذ معناها الكامل في المسيحية، إذ هي في العمق عمل أقنوم الروح القدس في الخليقة (Cf. T. Špidlík,  Manuale fondamentale di spiritualità, Casale Monferrato 1993, 12: “La vita spirituale è la vita nello Spirito e con lo Spirito Santo”. M.I. Rupnik, Nel fuoco del roveto ardente.  Iniziazione alla vita spirituale, Roma 20002, 37).

ننتقل الآن إلى التقليد الآبائي، وبشكل خاص إلى التقليد الشرقي الذي يقدم لاهوتًا سلبيًا متينًا وجذابًا. التراث الصوفي في هذا اللاهوت لا يشكل وجهًا من وجوهه أو خيارًا بين خيارات عدة، بل هو قلب اللاهوت العقائدي. اللاهوت والتصوف يتكاملان، ولا يمكن الفصل بينهما. يصرح اللاهوتي الأرثوذكسي فلاديمير لوسكي في هذا الصدد قائلاً: “إذا كانت الخبرة الصوفية تعني التجسيد الشخصي لمكنون الإيمان المشترك، اللاهوت هو بدوره تعبير، لأجل الخير المشترك، عما قد اختبره الفرد شخصيًا” (V. Loosky, La teologia mistica della Chiesa d’oriente, Bologna 1990, 4). من هذا المنطلق، يترتب على اللاهوت أن يستعيد العنصر الصوفي لحياة الإنسان أمام الله وفي مسيرته نحو وفي الله. فموضوعية اللاهوت تتطلب إشراك الفاعل اللاهوتي البشري، في دراماتيكية مسيرته نحو الفاعل الإلهي. الموضوعية، بالواقع، ليست مرادفًا للتجرد اللامبالي والبارد، بل هي وقوف صادق أمام الواقع الإلهي والجو الإلهي الذي يدخل فيه الإنسان من خلال الخبرة الروحية. اللاهوتي ليس متفرجًا، بل هو عنصر فاعل في عملية اللاهوت التي تصبو إلى قبول حب الله في الروح القدس الذي أفيض في قلوبنا (روم 5، 5)، هو – كما يشرح اللاهوتي الكندي برنارد لونرغان –  تَتَيُّم، وقيام-في-الحب، (being-in-love) (Cf. B. Lonergan, Method in Theology, op. cit., 105ss).

يحتل اللاهوت السلبي مكانه لأن موضوع اللاهوت يتسامى على الأوصاف والتحديدات، وعليه فاللاهوت الإيجابي-الظاهر (katafatica) يكتمل في قبوله لبعد اللاهوت السلبي-الخفي (apofatica). وقد حدس ذلك اللاهوتي الكبير هنري دو لوباك عندما صرح: “لا يمكن التفكير حقًا بالله، إذا لم نعترف به كإله متسامي، دون أن نرفع قلوبنا وأفكارنا إلى العلاء، فما من برهان يستطيع أن يتجاوز خبرة الله” (H. De Lubac, Sur les Chemins de Dieu, 183-4). البعد السلبي في الخبرة المسيحية ليس رفضًا للخبرة، فـ “النعم” يستمر في صلب “اللا”، كمقابل ضروري له، يوجهه، يحدده ويشكّله. البعد السلبي والنافي، ما هو بالواقع إلا ثمرة الفيض (excessus): تمامًا كما يحدث لنا عندما ننظر إلى الشمس فلا نرى إلا ظلمة بسبب فيض النور الذي يفوق طاقتنا على قبوله. بهذا الشكل تضحي الظلمة برهانًا قاطعًا على نقاوة وقوة النور.

السلبية والنفي في اللاهوت المسيحي ليست موقفًا مسبقًا مثل ذلك الذي نراه في قصيدة ألكساندر بوب (Alexander Pope) المعنونة مقالة في الإنسان، حيث يقول الشاعر: “اعرف نفسك، ولا تزعم معرفة الله، فموضوع درس البشرية هو ابن البشر”. بوب يعتبر أن البحث بشأن الله ما هو إلا مضيعة للوقت، ما هو إلا سعي الفراشة إلى الطيران نحو القمر، وعليه ينصح بعدم ضياع الوقت في هذا البحث غير المجدي. نجد نفيًا مماثلاً، نفيًا هو موقف مسبق بدل أن يكون خبرة، في أديان وروحانيات الشرق الأقصى (الصين، الهند…). هذه الأديان تنطلق من فكرة النفي كقاعدة. أما اللاهوت المسيحي، فلا ينطلق من هذه الخبرة بل يمر بها ويصل إليها دامجًا إياها مع خبرة الله الإيجابية في جدلية لا تسجن الله لا في النفي ولا في التصريح. بكلمة، اللاهوت المسيحي يقبل بالتصريح الإيجابي في الله، ويبين من خلال الخبرة أن أكثر ما نعرفه عن الله هو بالواقع ليس وصفًا له بل وصفًا لما ليس الله، يقول أغسطينوس في هذا الصدد: “الله نعرفه أفضل من خلال ما لا نعرفه عنه” (Agostino, De ordine, II, 16; PL 32, 1015)، وتوما الأكويني يقول ما يماثل هذا: “عن الله لا يمكننا أن نعرف ما هو، بل ما ليس هو، وما هي الأشياء بالنسبة له” (Summa Contra Gentiles, 1, 30). وعليه فالنفي ليس واقعًا في الله، بل هو نتيجة لضعفنا فنور الله هو مشع لدرجة أننا نجدنا كعميان أمامه، هو – كما يسميه ديونيسيوس المنحول – “ظلمة نيرة”.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير