بقلم روبير شعيب
روما، الاثنين 26 يوليو 2010 (Zenit.org). – في قصيدة مؤثرة في اللغة المحكية في روما يكتب الشاعر تريلوسا عن “عجوز عمياء” فيقول:
“تلك العجوز العمياء، التي التقيتها في الليلة التي تهت فيها في الغابة
قالت لي: – إذا كنت لا تعرف الطريق،
أرافقك أنا، لأني أعرفها.
إذا كنت تملك الحول للسير معي.
من حين إلى آخر سأخاطبك
وصولاً إلى هناك، حيث يرتفع السرو
إلى العلاء، حيث ينتصب الصليب…
فأجابتها: فليكن… ولكني أعجب مِن أنّ مَن لا يرى
يريد أن يقودني…
عندها أمسكت العجوز بيدي وتنهدنت: امش!
كانت الإيمان!”.
إذا كان ملء معرفةَ الله يكمن في الإيمان، وإذا كان ملء الإيمان هو الاتحاد بالله الذي لا يمكن معرفته وعيش الله في الشخص البشري والشخص البشري في الله (راجع يو 5، 56)، يضحي الإيمان إذًا أمرًا مستحيلاً إذا لم يكن الإنسان يستطيع أن يثق بالله ويستسلم له في “الليل المظلم المقدس”. من ناحية أخرى، الاستسلام لله هو مستحيل من دون معرفة تعترف بمصداقية الله وبأمانته. لا يمكن الدخول في رقصة (pericoresi) الحياة الثالوثية إذا لم نسمح لله أن يدجننا! الإيمان بالله يتطلب بالضرورة الثقة بالله والتتيم بالله. يقول الكاردينال دو لوباك: “الإيمان هو استسلام. لا يجب على المؤمن أن يثقل نفسه بالنظريات. إذا أراد أن يفكر بإيمانه فحسنًا يفعل، النظريات لا بد منها، بشرط أن تكون صلبة وأصيلة. ولكن فليحرص على ألا يبقى متعلقًا بها، كما ولو كانت من خيرات فكره. لا بد للإيمان من أن يشترك في امتياز المحبة: فالمحبة لا تسعى أبدًا إلى تملك موضوعها، أو إلى احتكاره؛ بل تغوص فيه” (H. De Lubac, Paradoxes, Paris 1999, 9-10).
لا يمكننا أن نغوص في الله إذا كنا لا نثق به، ولهذا لا بد للاهوت وللفكر المسيحي أن يسترجع بعد اللاهوت الصوفي والروحي الذي يركز على مصداقية وأمانة الله.
في القرن الماضي، قام الفيلسوف موريس بلوندل بانتقاد الاستعمال العقلاني والموضوعي جدًا الذي كانت تستعمل به كلمة “إيمان”، بحيث أضحى الإيمان مجرد إيمان معتقدات (foi-croyance) تعليمي وعقائدي، على حساب إيمان الثقة العاطفي والاتحادي (foi-confiance affective et unitive).
يقول الفيلسوف المسيحي: “إذا كان الإيمان يزيد معرفتنا، فهو لا يقوم بذلك في المقام الأول لأنه يعلمنا أمورًا جديدة، بل لأنه يجعلنا ندخل في حميمية حقيقية وعميقة مع الله، ويجعلنا نتحد بحياته، وينشئنا من خلال فكر محبّ على فكر الله وعلى حبه”.
هذا لا يعني أن الإيمان يعارض المعرفة أو العقل، فالفيلسوف يتابع قائلاً: “الإيمان ليس عكس العقل أو انعدام العقل؛ هو لا يرفض المعرفة؛ ببساطة، الإيمان يرتكز على براهين هي ذات طبيعة خاصة، بحيث أنه بعد أن يراجع الإيمان البراهين والعقل يرتفع نحو فعل ثقة لا يجوز حصره في إطار فكر موضوعي. فنحن لا نستطيع أن نبرهن أنه يجب أن نُحبّ من خلال تقديم براهين الحب، فهذا أمر سخيف!” (M. Blondel, 1888-1913. La philosophie de l’action et la crise moderniste. Oeuvres complètes, II, Paris 1997, 582-3).
ما يقوله بلوندل يستبق ما سيقوله اللاهوتيون بعد عشرات السنين، في ما بينهم بيار أنجلو سيكويري (Sequeri) الذي يتحدث عن الفصل المأساوي بين فكر الإيمان (intellectus fidei) وعاطفة الإيمان (affectus fidei). اللاهوت الذي يتناسى القلب، لا يقوم فقط بعدم حفظ “أكبر الوصايا” (مت 22، 36 – 37): “أحبب الرب إلهك من كل قلبك، من كل نفسك ومن كل عقلك” (تث 10، 12)، بل يتوجه أيضًا إلى الإنسان ببشرى هي ليست بالحقيق بشرى سارة لأنها تبتر الإنسان ولا تفعل كل طاقاته، طالبة منه أن يقبل بعقله معطى إيمان (data)، بدل أن تشمل كل كيانه بقبول الله بالذات، جوهر البشرى الإنجيلية. يشدد سيكويري على أنه يترتب على اللاهوت العقائدي أن يعلن “البشرى السارة” المتمثلة بأن “الإيمان هو علاقة سعيدة مع الله (سعيدة حتى في وسط الصعاب)” (Cf. G. Ruggieri – P.A. Sequeri – G. Vattimo , Interrogazioni sul Cristianesimo. Cosa possiamo ancora attenderci dal vangelo?, Roma 2000, 69)، وإلا ما كانت تبشيرها قادرًا على الإجابة على سؤال المعنى الذي يطرحه الإنسان حول وجوده ووجود العالم. فالإنسان لا يطرح السؤال حول المعنى ما لم يحدس أن في صلب البحث هناك منبع للسعادة. ويشرح اللاهوتي الإيطالي أننا اليوم نعيش طلاقًا ليس بين الإيمان والعقل بقدر ما هو بين الإيمان والروحانية، أي بين اعتراف الإيمان الفكري وحياة العلاقة بالله (P.A. Sequeri, La qualità spirituale. Esperienza della fede nel crocevia contemporaneo, Casale Monferrato 20012, 9).