بقلم روبير شعيب
روما، الثلاثاء 27 يوليو 2010 (Zenit.org). – إن الموضوع الذي تطرقنا إليه في القسم السابق، موضوع الإيمان والثقة يفتح الباب على موضوع العاطفة في الإيمان. للأسف، غالبًا ما تم تجاهل هذا البعد في علم اللاهوت باعتبار خطأً بعدًا طفوليًا وتعبيرًا عن عدم النضجو في الإيمان. وتم اعتبار الإيمان الناضج كإيمان الفكر القاسي والجاف. وقد ترك اللاهوتيون البعد العاطفي لدراسات وتحاليل العلوم الإنسانية الأخرى مثل الأنتروبولوجيا، علم النفس وعلم الاجتماع.
ولكن تجاهل هذا البعد يترك التحليل اللاهوتي منقوصًا لأنه يتجاهل بعدًا أساسيًا في الكائن البشري، بعدًا لا يمكن تجاهله دون دفع الثمن نظريًا وعمليًا. فكم من الأشخاص يشعرون بأن أحاديثنا الدينية مملة، نظرية وغير مهمة، بينما يصغون بحماسة واهتمام لمداخلات علماء النفس على الراديو والتلفزيون؟
لا يمكن فصل العاطفة عن الإيمان، تمامًا كما لا يمكن فصل العقل، أو فصل الحياة، أو فصل الأخلاق. الإيمان واقع يخص كل الإنسان ولا بد أن ننتبه إلى كل الإنسان في نقل البشرى السارة! الانتباه إلى الإنسان يعني الانتباه إلى حالته العاطفية، إلى خبراته الحاضرة والماضية. وهذا الأمر بشكل خاص في الإيمان المسيحي، انطلاقًا من معطيين: الأول هو البعد الموضوعي، بعد الوحي المسيحي. والثاني هو البعد الشخصي، بُعد المؤمن الفاعل.
علاوة على ذلك، إذا ما نظرنا إلى إله الكتاب المقدس، وإلى المقاربة الكتابية للإنسان، نرى أن الوحي الإلهي لا يستحيي ولا ينكر هذا البعد العاطفي في الله وفي الإنسان. اللاهوت الكتابي يتجرأ أن يصف الألوهة بـ “الغيرة”، “الحب”، “الرحمة”، “التأثر”… ولا بد لعلم اللاهوت أن يتعلم من جديد كيف ينقل هذه اللغة الكتابية في لغاتنا الحالية وبشكل نفهمها اليوم لاهوتيًا وحياتيًا. يجب على اللاهوت وعلى اللغة المسيحية أن تتحرر من صورة الله الأرسطوية التي تصور الله كمحرك لا يتحرك، وكعقل متسامٍ عن المشاعر. فهذا ليس إله الكتاب المقدس، هو فكرة اعتمدها فيلسوف لكي يسيّر نظرته الفلسفية (deus ex machina)، والتمسك بهذه الصورة وكأنها الصورة الأسمى لله يجعل منها صنمًا، كما سبق ورأينا عند آباء الكنيسة في قسم سابق. وقعت بعض البنى اللاهوتية، في محاولتها للحفاظ على تسامي الله، في فخ تحجير الله الحي وزجه في سجن وحشة قاتلة (Cf. J.-N. Bezançon, Dieu n’est pas solitaire. La Trinité dans la vie des chrétiens, Paris 1999, 13).
يجب أن نطهر مفهومنا لله إنطلاقًا من عقيدة الثالوث الموحاة، التي لا يمكن للعقل البشري أن يبتكرها أو أن يحصرها (خلافًا لفكرة وحدانية الله التي يمكن للعقل أن يتوصل إليها من دون مساعدة النعمة والوحي).
الله أحد ولكنه ليس وحيدًا مستوحشًا. الله شركة حب، ولا بد لنا أن نعيد اكتشاف غنى عقيدة الثالوث الأقدس، التي تتخطى وحدانية وتسامي جوبيتر، وتفسح المجال لروعة الحياة الثالوثية التي يحوال اللاهوتي الروسي بافل فلورنسكي وصفها فيقول: “هي تأمل الذات في الآخر من خلال الثالث” (P. Florenskij, La colonna e il fondamento della verità, Milano 1974, 63). هذا الوصف يبين لنا أن الثالوث الأقدس هو في آن حياة، آخرية، وخروج من الذات (vie, alterité et exstase). كما وأنه لا بد من تجديد فهمنا للألوهة لكي نستطيع نظريًا أن نوقن إمكانية ومعنى التجسد: الكلمة الذي ينفتح على العدم فيضحي كلمة الخلق التي يتلفظ بها الآب في الروح القدس، خالقًا حريات (بشرية) قادرة أن تشارك في رقصة طوباوية الثالوث الأقدس، التي تنفتح في حميميتها على آخرية مخلوقة.
كيف يمكننا أن نفهم إلهًا كهذا إذا لم نر فيه توقًا؟ بالطبع، هذا التوق يختلف عن توقنا البشري، تمامًا كما يختلف فكر الله عن فكرنا، ولكنه موجود! توق الله هو تفجر حبه الذي نختبره في لحظات نتحرر فيها للحظات بفعل النعمة من عاطفتنا المستهلكة ونقوم بأفعال محبة مجانية لامشروطة.
إعادة إدخال العاطفة في فهم الإيمان هي أمر مهم أيضًا نظرًا للإنسان الذي يبني علاقته بالله ليس فقط انطلاقًا من العقل، بل أيضًا انطلاقًا من الحياة، الإرادة، الذاكرة، المخيلة والعواطف. ولقد أدرك دور العاطفة بشكل خاص القديس اغناطيوس دي لويولا الذي قدم فعل الروح القدس وفعل الشرير في حياة الإنسان تحت اسمين هما التعزية والاكتئاب. علمًا بأن كبار اللاهوتيين والصوفيين يرون تأثير الروح القدس الأكبر في خبرتنا العاطفية الروحية (. C.A. Bernard, Teologia affettiva, Cinisello Balsamo 1985, 9ss).
كل هذه الأمور تفرض علينا أن ننزل عن عرش لاهوت الرأس، نحو لاهوت القلب والحياة، فندمج اللاهوت العقائدي باللاهوت الرعوي. فاللاهوتي الحقيقي هو خادم يستهلك وجوده في الإصغاء إلى عطش الله (يو 19، 28) وعطش الإنسان (مز 41، 3؛ 62، 2) وأنين الخليقة (روم 8، 22) ويسعى إلى إيجاد آبار تفسح المجال للقاء الختني بين عطش الله وعطش الإنسان (راجع يو 4).
إيمان الثقة وحضور العاطفة هو أمر يشمل مختلف خبراتنا الحياتية. وقد بين ذلك عالم النفس أريك فروم في كتاب “فن الحب” (The art of loving). فأن نؤمن يعني أن نثق بمصداقية وأمانة الآخر. القيام بوثبة الثقة يتم فقط إذا ما شعر الإنسان بزخم نحو القيام بهذه الخطوة، وهنا يدخل البعد العاطفي. فالعاطفة تلعب دور الجاذب نحو الولوج في علاقة الثقة.
(يتبع)