وحده الحب يستحق الإيمان والثقة

Share this Entry

بقلم روبير شعيب

روما، الخميس 29 يوليو 2010 (Zenit.org). – هناك آية في رسالة يوحنا الأولى نمر عليها عادة مرور الكرام، ولكنها جوهر مكنون إيماننا كمسيحيين. يتحدث الرسول عن موضوع إيماننا فيقول: “لقد عرفنا وآمنا بمحبة الله لنا” (1 يو 4، 16). هذه الآية هي إلى حد ما كنه عنوان كتاب اللاهوتي فون بالتازار “وحده الحب يستحق الإيمان” (Glaubhaft ist nur Liebe).

إن مصداقية الآخر وإمكانية الثقة به هما أمران يسيران سوية، ولكن خبرتنا الظواهرية تبين أن هناك نوع من أولية في مبادرة الآخر. فصورة (Gestalt) الآخر تسبقنا دومًا، وبمعزل عن مبادرته لا يستطيع توقنا أن يوجد، بل جل ما نعيشه هو شعور بعدم الرضى المكبوت، وكآبة وجودية غامضة وداكنة لا نتوصل إلى فهم أصلها ومعناها، لأننا بالحقيقة ننتظر ما يسميه بلوندل “المستحيل الضروري” (Impossible nécessaire) الذي لا نستطيع تصوره ما لم نلتق به في حياتنا لأن حقيقته هي نقطة جديدة في حياتنا لا يمكننا أن نسبق تصورها، بل ندركها فقط عندما نختبرها. يحدس توقنا الآخرَ دون أن يدرك كنهه، إلى أن يكشف الآخر عن حضوره بحد ذاته. وحدها مفاجئة حضور الآخر في أفقنا وحضوره الفعلي يوقظان في باطننا الإدراك الحسي لحاجتنا إليه، ويدفعاننا إلى الاعتراف بميلنا إلى الثقة.

لنا في هذا المجال مثال في علاقة الطفل بأمه. فالفعل الشخصاني الأول الذي يقوم به الإنسان – بحسب فون بالتازار – هو البسمة التي تعبر عن كيانه الشخصاني الذي يسمو الوجود النباتي والحيواني، وعليه يشبه اللاهوتي استيقاظنا إلى الثقة بالله وإلى دعوتنا الإلهية بـ “طفل يستيقظ على الوعي الذاتي في إصغائه للنداء الذي يوجهه إليه حب الأم. […] تأويل بسمة الأم وإخلاصها هو جواب الحب على الحب الذي تولده الأم بالذات لأن ‘الأنا‘ يتلقى النداء الذي يوجهه إليه ‘الأنت‘” (H.U. Von Balthasar, “Il movimento verso Dio” in Spiritus Creator, Brescia 1972, 13).

هذه الخبرة الظواهرية التي نعيشها في حياتنا البشرية لها مقابل في البعد اللاهوتي: فوجودنا يعكس بسمة الله التي تزرع في عدمنا رجاء الوجود وتدفعنا إلى ثقة الإيمان وإيمان الثقة. ولكن، عمليًا، هذا الأمر صعب – لا بل شبه مستحيل – إذا لم نسترجع قيمة “الجمال” في خطابنا اللاهوتي المتمحور عادة حول “الحقيقة” و “الخير” الأخلاقي. اختزال صورة الله في الأفق الأخلاقي يعقّم كيانه، ولا يولد فينا الاهتمام.

في اللاهوت كما في الوجود لا يمكن الفصل بين “الجمال”، “الحق” و “الخير”، عليه على كلامنا عن الله أن يبين “الجمال” في وجهيه: جمال الله، وجمال أن نكون مع الله. فون بالتازار هو من هذا الرأي إذ يقول: “في التاريخ لا يمكن أن يكون هناك لاهوت عظيم وخصب تاريخيًا إذا لم يتم الحبل به وولادته تحت نجوم الجمال والنعمة” (H.U. Von Balthasar, La Gloire et la croix. Les aspects esthétiques de la Révélation, I, Apparition, Alençon 1990, 12).

لم هذا؟ لأن الغاية من اللاهوت هي أن يرتد الإنسان إلى حب الله في يسوع المسيح، وهذا الأمر لا يمكن إن يتم إلا في ظل النعمة التي تفتح عيون الإيمان لرؤية جمال الحب، توق الإنسان الأعمق. اللقاء بالجمال يتميز ببعدين: الحدس والانجذاب، وهذان الأمران مرتبطان: فنحن لا نحدس حقًا إذا لم ننجذب، ولا ننجذب إلا بعد أن نحدس. أن نحدس صورة الله يعني أن ندرك حقيقتها في تألق بهائها.

ولكن ما هو جوهر جمال الله، هذا الجمال الذي قال فيه دوستويفسكي: “الجمال سيخلص العالم”؟

جمال الله يتجلى تاريخيًا في اللوغوس الذي ينحني ويفرغ ذاته ويبين عن نفسه أنه حب، وكونه حب هو مجد “كافود” وتألق. لو لم يكن اللوغوس المسيحي الحب المطلق اللامشروط واللامحدود لكان ترتب عليه “أن يقف منتظرًا دوره في صف التعاليم والحكم الدينية التي تكشف (فلسفيًا، غنوصيًا وأسطوريًا) عن كنوز الحكمة المطلقة، وتقود إلى اكتمال المعارف المشرذمة” (H.U. Von Balthasar, Solo l’amore è credibile, Roma 2002, 44). ولكن، بما أن المسيح-اللوغوس قد أحب “حتى النهاية” (راجع يو 13، 1) مفرغًا ذاته حتى الموت، موت الصليب، وبما أنه ظهر كالراعي “الجميل” (ho poimen ho kalos) الذي يقدم ذاته لأجل خرافه (راجع يو 10، 11)، فإن تقدمة ذاته تضع الإنسان أمام خيار ضروري: إما أن يقبل فيض هبة الحب أو أن يرفضها. اللوغوس الإلهي ليس مفهومًا يمكن ضمه إلى الآخرين، إنه حضور يتطلب حبًا أمينًا، وإلا كل المواقف الأخرى هي زنى روحي.

(يتبع)

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير