جل الديب، الجمعة 30 يوليو 2010 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي نص مداخلة الأستاذ كميل منسى خلال ندوة “التعاون بين المسيحيين والمسلمين في بلدان هذا الشرق”، التي عقدت في المركز الكاثوليكي للإعلام، جل الديب، لبنان، في 27 يوليو الجاري.
* * *
بعد مرور ثلاث عشر سنة على صدور الأرشاد الرسولي، “رجاء جديد من أجل لبنان”، والذي كان ثمرة السينودوس من أجل لبنان الذي وقّعه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في بيروت في 11 أيار 1997 في مستهلّ زيارته التاريخية للبنان، نحن اليوم على عتبة انعقاد سينودوس للشرق الأوسط وصدور إرشاد رسولي جديد أوجبتهما “التجارب الكبيرة” التي يعانيها بعض المسيحيين “نظراً الى الأوضاع الحالية في المنطقة” على ما قال قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر لدى تسليمه وثيقة العمل لهذا السينودوس الى بطاركة الطوائف الكاثوليكية.
ويأتي إنعقاد السينودوس مع إتـّساع هجرة مسيحيي الشرق الأوسط بسبب الأزمة التي يتخبّطون فيها والتي عرف مثلها مسيحيو لبنان، وذلك سعياً الى تثبيت الوجود المسيحي في هذه المنطقة والى ضمان عيش المسيحيين “بوئام وسلام مع جيرانهم يهوداً ومسلمين”.
وهجرة المسيحييين لم تقتصر على بلدٍ بعينه، بل شملت بلداناً عربية عدّة تقلّص فيها عددهم تدريجياً. مثال ذلك أنه في عام 1948 كان عدد المسيحيين في مدينة القدس يناهز الثلاثين ألفاً، فتراجع عام 1967 الى خمسة عشر ألفاً، وهو اليوم لا يزيد عن ثمانية آلاف.
ويناهز عدد المسيحيين في الأراضي المحتلّة الخمسين ألفاً وفي اسرائيل مئة وعشرين ألفاً وفي الأردن مئتي ألف، أما عدد كلدان العراق فقد هبط من مليون ومئة ألف الى أربعمئة ألف شخص.
إنّ تضخّم أرقام الهجرة المسيحية من الدول العربية يعود الى أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، لكن لهذه الهجرة أبعاداً دينية أيضاً تتعلـّق بصورة المسيحية لدى بعض المسلمين. ذلك أن هذا البعض يربط ألمسيحية بالغرب ويحمّل المسيحيين وزر أي موقف سياسي يتّخذه الغرب. على هذا البعض أن يعي أن المسيحيين في الشرق كيان قائم بذاته وهم يشكّلون جزاءً لا يتجزّاء من المنطقة التي يعيشون فيها منذ أقدم العصور، وإن وجودهم فيها هو الدليل على خطأ الحديث عن شرق مسلم مقابل غرب مسيحي.
إن ثلثي المسيحيين يعيشون في العالم الثالث حيث يستوطن الإسلام. فهل يمكن والوضع كذلك اعتبار المسيحية دين المستعمر؟ وماذا عن المسلمين الذين يعيشون في الدول ذات الغالبية المسيحية في حال إنتكاس العيش المشترَك ؟ ولقد ورد في الفقرة 101 من وثيقة سينودوس الشرق الأوسط ما يلي :”وفي معظم الأحيان توحّد بلادنا بين الغرب والمسيحية. فإذا كان صحيحاً أن الغرب له تقليد مسيحي، وأن جذوره مسيحية، فمن الواضح أيضاً أن حكوماته اليوم علمانية، ولا تستلهم السياسة الإيمان المسيحي، بل كثيراً ما تحارب تعبيراته. ولكن العالم الإسلامي لا يفرّق بسهولة بين الجانب السياسي والجانب الديني، وهذا ما يتسبّب في ضرر كبير لكنائس منطقة الشرق الأوسط، لأن الرأي العام الإسلامي يتّهم فعلياً الكنيسة بأية خيارات سياسية للدول الغربية. فمن المهمّ أن نشرح معنى العلمانية، وشرعية استقلال الواقع الزمني، كما يعلّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.”
بالنسبة الى المنطقة، لا مستقبل لها من دون العيش الواحد. وتراجُع الحضور المسيحي من حيث العدد وتالياً من حيث الدور، هو كارثة للجميع. من هنا أهمية السينودوس لأنه بمعالجته موضوع المسيحيين في الشرق يعالج مشكلة قد تواجهها المجتمعات العربية في حال هجرة المسيحيين ومن أبرزها حرمانها كفاءات ومؤهلات وتحوّلها مجتمعات منغلقة على ذاتها. لذا ينبغي أن تكون هجرة المسيحيين من الشرق همّاً إسلامياً بقدر ما هو همّ مسيحي. والصعوبات التي يواجهها المسيحيون على صعيد التأزّم الأقتصادي والتسلّط السياسي والتي تدفعهم الى الهجرة، هي نفسها التي يعانيها المسلمون، بحيث أن رفع الكابوس عن المسيحيين يرفعه في الوقت ذاته عن المسلمين.
إن وثيقة السينودوس من أجل لبنان كانت أشارت في أحد بنودها الى أن التفاهم والعيش الأسلامي المسيحي في لبنان رهن بالتفاهم والعيش الأسلامي المسيحي في محيطنا العربي. ومما جاء فيها : “إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عسر وأيام بؤس، مدعوون الى أن يبحثوا معاً عن مستقبل عيش مشترك وتعاون يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً إنسانياً وأخلاقياً “.
كان هذا عام 1997. وفي تشرين الأول من عام 2010، أي بعد ثلاثة أشهر، ينعقد سينودوس الشرق الأوسط تحت عنوان “شركة وشهادة” .
ماذا جرى بين السينودسين ؟ إذا كان الوضع في لبنان يبدو أقل مأسوية مما كان في السلبق، فهو على صعيد المنطقة في تراجع. ولم يكن السينودوس يُدعى الى الأنعقاد لو كان الوضع سليماً، كما أن العلاقات المسيحية الأسلامية لم تشهد تحسّناً، بدليل ازدياد هجرة المسيحيين.
كيف معالجة هذا الوضع؟ لا بد قبل الإجابة عن السوأل من الإقرار بصعوبة المعالجة لأن الصراعات والأزمات في هذه المنطقة من العالم أساسها سياسي، والحوار الأسلامي- المسيحي بات بدوره للأسباب التي ذكرناها سابقاً، حواراً سياسياً تداخلت فيه مصالح ومعطيات دولية زادته تعقيداً. إلاّ أن ذلك لا يعني عدم القدرة على مواجهة الوضع القائم في محاولة لأعادة الأمور الى طبيعتها بهدوء بعيداً عن التشنّجات والأزمات. لكن لذلك شروطاً منها :
1. التحرّر من ال
خوف عن طريق المحبة بين مختلف الأطراف. إن يتحرّر الشيعي من الخوف من الماضي الذي يساهم في اتّخاذه مواقف متصلّبة والسني من الخوف على المستقبل الذي يحمله على عدم الإفراط في الليونة، والمسيحي من الخوف على وجوده. في الفقرة 96 تقول الوثيقة:”هناك أحياناً أو غالباً صعوبات في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، خاصة بسبب أن المسلمين لا يفصلون بين الدين والسياسة، مما يجعل المسيحيين في وضع حسّاس وكأنّهم ليسوا مواطنين، في حين أنهم مواطنو البلاد قبل مجيء الإسلام بكثير. إن مفتاح النجاح للتعايش بين المسيحيين والمسلمين يتوقّف على الأعتراف بالجدية الدينية وبحقوق الأنسان.”
2. الأمتزاج بالشعوب التي نعيش معها فلا ننظر الى مصيرنا بالأستقلال عن مصير الآخرين. وقد ورد في الفقرة 97 :” إن المسيحيين مدعوون الى التجذّر في المجتمعات التي هم أعضاء فيها بصورة حقيقية متزايدة دائماً، والى عدم الأنعزال في جماعات مغلقة (ghetto)، فهذا موقف دفاعي وانطواء على الذات، تتميّز به الأقليات. يلحّ عدد كبير من المؤمنين على أن المسيحيين والمسلمين مدعوون الى العمل معاً لتنمية العدالة الأجتماعية، والسلام والحرية، والدفاع عن الحقوق الأنسانية، وعن قيَم الحياة والأسرة.”
3. العمل على مختلف الصعد السياسية والتربوية والخدمة الأجتماعية واضعين نصب أعيننا المصلحة العامة. وهذا أيضاً ما تطرّقت اليه وثيقة سينودوس الشرق الأوسط في الفقرة 98 حول التربية و103و104و105 حولة الحداثة.
وتدعو الوثيقة المسلمين والمسيحيين الى أن يشتركوا في مسيرة واحدة وتؤكّد في الفقرة 106 “أننا ننتمي الى الشرق الأوسط، ومعه تتوحّد هويتنا. إننا أحد مكوّناته الأساسية. وكمواطنين نشترك في مسؤولية البناء والأصلاح، فنحن كمسيحيين، هذا واجب علينا.”
أما على صعيد السياسة، فتلاحظ الوثيقة في فقرتها ال 108 ما يلي : “اليوم أصبح حضور المسيحيين في المجال السياسي محدوداً أكثر، على الأخص بسبب قلّة عددهم. ومع ذلك يعترف المجتمع بدورهم، ففيه الكنيسة حاضرة، بفضل مؤسساتها الكنسية والدينية العديدة. ويحظى هذا الحضور بالتقدير بوجه عام. وحبذا لو التزم العلمانيون المسيحيون في المجتمع دائماً أكثر.”
إن الوجود المسيحي يكون عبر التجذّر في الأرض التي انبعثت منها المسيحية في العالم. بالطبع لا بد من الهجرة لأسباب إقتصادية أو عائلية. المهم ألاّ تتجاوز المقبول وأن تبقى قسرية وألاّ تتحوّل اختيارية.
إن الحوار الذي طالما دعت اليه حاضرة الفاتيكان هو السبيل للوصول الى قواسم مشترَكة تؤمّن الأحترام المتبادل الذي هو اساس العيش الواحد.
وهنا لا بد من الأشارة الى الدور الذي تضطلع به كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك على هذا الصعيد. كنيستنا كنيسة عربية منتشرة في بلدان عدة في العالم العربي كما أنها منتشرة في كل المناطق اللبنانية، تتعايش في الداخل وفي الخارج مع الجميع وتقوم أمام الأزمات بدور الوسيط الذي يعمل على إخماد الحرائق السياسية أو الطائفية لضمان عيش واحد بأمان وسلام وطمأنينة.
كذلك لا بدّ من تطوير وتفعيل المبادرات الأسلامية المسيحية المشتركة التي تتناول قضايا العيش المشترك تربوياً وثقافياً ومعيشياً.
ما نحن في حاجة اليه وما يدعو له السينودوس هوحوار الحياة والعيش معاً.
إن كنيستنا تطبق بنود الإرشاد الرسولي حتى قبل صدورها لأن الحوار هو رائدنا رغم الانتقادات التي توجّه إلينا بسبب مواقفنا غير المتصلبة، الساعية إلى التوفيق ما عدا بالطبع في المواقف المبدئية. ومن أجل الحوار في لبنان ومع سائر الطوائف في لبنان والشرق الأوسط بل وفي العالم أنشأ غبطة بطريركنا غريغوريوس الثااث لحام مركزاً في الربوة خصص للحوار.