بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الاثنين 13 ديسمبر 2010 (ZENIT.org). – ما إن نبدأ بقراءة الكتاب المقدس حتى نجدنا أمام عبارة غامضة: “في البدء خلق الله السماوات والأرض”.
في البدء: ما معنى هذه الكلمة؟ عندما يقوم كاتب أرضي مخلوق بالكلام عن البدء، نفهم فورًا أن حديثه لا يشكل سردًا صحفيًا دقيقًا لما جرى، بل هو قراءة تفسيرية (تأويلية). بالواقع، إن الكلام عن البدء يظهر في فكر إسرائيل كقراءة للماضي على ضوء حاضره. يختبر إسرائيل الله مخلصًا يعيد خلق الشعب بعد تشتته، ويدرك في الوقت نفسه الله خالقًا أقام، لا إسرائيل وحسب بل كل العالم. إنطلاقًا من عمل الخلاص يعود المؤلف الكتابي إلى عمل الخلق، ويُطلق رسالة رجاء. إن الله الذي يخلق من “توهو بوهو” أي من الصحراء والفراغ هو الإله الذي يعيد خلق إسرائيل كوحدة وكشعب من تشرذمه ويأسه. وهو الإله عينه الذي يخلق في الإنسان قلبًا نقيًا ويردّ شعبه جماعةً وأفرادًا.
إذا ما رجعنا إلى النص العبري، نجدنا أمام واقع رمزي هام: في البدء بالعربية تقال “بريشيت”. حرف “البيت” في العبرية هو حرف يساوي الرقم إثنين، وهو ثاني حروف الأبجدية. شكليًا يبدو الحرف منغلقًا على جانبه الأيمن ومنفتحًا على جانبه الأيسر، إنه بدء زمني ينفتح على أبدية. يستنتج معلمو إسرائيل من هذا الواقع عدة أمور، فيقولون على سبيل المثال: إن الكتاب المقدس، وكلمة الكتاب المقدس هي ثانية، هي تلي الله وتأتي بعده. الأساس هو واحد، هو الله بالذات. الكتاب هو بعد الله وهو مرتبط به، يُخبر عنه هو الذي يشكل الأصل الذي لا أصل قبله والبدء غير الزمني الذي لا بدء له ولا سابق. “بدء” سفر التكوين يختلف عن “بدء” إنجيل يوحنا. فالأول زمني، أما الثاني فهو في أزلية الله.
يكتب في صدد هذا البدء أنزو بيانكي: “أن نضع الله ’في البدء‘، يعني أن الكون هو ثمرة حرية، وليس نتيجة لضرورة حتمية؛ يعني أن الإنسان يعرف من أين يأتي وهو لا يخضع لسلطان المجهول؛ يعني حضور الآخرية التي يُمكن فيها الحب، العلاقة، العهد؛ يعني أن اليوم يصبو نحو غد ليس ثمرة الصدفة؛ يعني أن نضع الله ’في النهاية‘”.
ولكن لماذا يتحدث الكاتب عن البدء؟
بكل تأكيد، لا لكي يُشبع فضول قرائه. يكتب المؤلف عن الماضي لكي يقدم ضوءًا إلى الحاضر. بينت الدراسات المعمقة أن نص الفصل الأول من سفر التكوين يعود إلى فترة المنفى في بابل (بين 587 و 538 قبل المسيح)، وهي فترة ضياع كبير، كثر فيها التواصل مع الحضارات الوثنية، وأدى ذلك إلى نوع من الضياع والمزج في صفاء فكر وإيمان إسرائيل. ولذا كانت مبادرة مؤلفي الفصل الأولين أن يقوموا بتنقية الإيمان من الشوائب وبتقديم فهم الإيمان العبري للوقائع الأساسية، منها مبدأ الخلق، مقابل مبادئ خاطئة مثل الانبثاق، وألوهية العوامل الطبيعية وما إلى ذلك. وسنرى في الحلقات المقبلة كيف يشكل الفصل الأول نوعًا من وصف لموقف الله من الخليقة، لكي يتبنى الإسرائيلي المؤمن هذا الموقف عينه في علاقته بالخليقة.
والرب معكم.