سيدني، الأربعاء 22 ديسمبر 2010 (ZENIT.org). - ننشر في ما يلي القسم الثاني من مقالة سيادة المطران عصام يوحنا درويش التي يشرح فيها القداس الإلهي. في هذا القسم يتحدث صاحب السيادة عن ليترجية الذبيحة الافخارستية التي تمتد من دورة القرابين حتى النهاية

* * *

1- الدخول الكبير، دورة القرابين

 

عند الانتهاء من العظة وتلاوة الطلبات الملحّة وطلبات المؤمنين يرنم "نشيد الشيروبيم"، ويبدأ الكاهن بتبخير الهيكل والأيقونات والشعب وهو يصلي سرًا المزمور الخمسين "ارحمني يا ألله" ويتوجه إلى الهيكل الصغير حيث تم تحضير القرابين، فيحمل القرابين بخشوع ووقار جاعلاً إياها فوق رأسه، ويذهب من جديد إلى المائدة المقدسة حيث يقدم الذبيحة، مجتازا ببطء الكنيسة وتتقدمه الشموع والبخور. أثناء مروره وسط الشعب ينحني الجميع أمام الكاهن طالبين منه أن يذكرهم في هذه التقدمة؛ وقبل أن يضع القرابين على المائدة يلتفت إلى الشعب ويقدم الذبيحة على نيتهم ويطلب من الرب أن يذكرهم في ملكوته السماوي. لقد أصبحنا بنقل القرابين "نمثل الشيروبيم سريًا"، لذلك علينا أن نضع جانبا همومنا الأرضية لتستقبل ملك المجد الآتي إلينا، ولم نعد مجرد أشخاص نجتمع في مكان واحد، بل صرنا "آدم الجديد" المدعوين إلى الجلوس على مائدة الحمل الفصحي.

2- دعوة إلى المحبة

 

بعد أن يذكر الكاهن جميع الناس أحياء وأموات ويضعهم في ذاكرة الله، يطلب منهم أن يَلِجوا محبته ليصيروا أخوة وأخوات، موحدين بالمسيح لأن الروح القدس يسكب نعمته عليهم فيعلن الكاهن: "لنحب بعضنا بعضا" فتجيب الجوقة: بالآب والابن والروح القدس.. يعني أن محبتنا هي في شركة تامة مع الثالوث الأقدس وبدون هذه الشركة لا تبلغ المحبة كمالها. ثم يدعو الكاهن الجميع ليسلم كل واحد على الآخر ويعطيه سلام المسيح. إن الكنيسة هي شركة محبة تتجسد في جماعة إفخارستية وهي الرابط الذي يجمع أعضاء الكنيسة. في هذه الجماعة التي تحب بعضها تكتمل الكنيسة وتتم وحدتنا بعضنا ببعض ويتم اتحادنا معا بالمسيح لكي نصير "في كثرَتِنا جَسَدٌ واحدٌ في المسيح لأنَّنا أعضاءُ بِعضِنا لِبَعْض" (رو12/5).

إن السلام الذي نعطيه لبعضنا البعض ذاكرين بأن "المسيح فيما بيننا" هو جزء لا يتجزأ من إيماننا وليترجيتنا لأننا بالمسيح نهدم حائط العداوة بيننا، به تزول خلافاتنا وانقساماتنا وبه نجعل كل غريب أخا وأختا لنا. إن المحبة التي نعبر عنها هنا في تبادل قبلة السلام هي شرط أساس لتكملة الذبيحة الإلهية وتناول جسد ودم يسوع المسيح.

3-  أؤمن

بعد المحبة التي ملأت قلوبنا فرحا وسلاما وبعد أن حصلنا على غفران الله وطلبنا سلامه، نشعر برغبة عارمة في قلوبنا بأن نغفر للآخرين ونطلب غفرانهم. ثم بعد أن قبلنا بعضنا البعض قبلة السلام صرنا قادرين على إعلان إيماننا "نؤمن بإله واحد.." نعلن في هذه الصلاة أننا نؤمن بالله الآب الخالق، نؤمن بيسوع المسيح الذي تألم من أجلنا، بالروح القدس المعطي الحياة، بالكنيسة وبحياة أبدية مع الله. إن حياة المسيحيين تكمن فقط بإيمانهم في تجسد يسوع المسيح وموته وقيامته، فقانون الإيمان كما حدده آباء مجمع نيقية، هو شرط مفروض على كل مسيحي حتى تتم شركته مع الكنيسة ومع الله، والمجاهرة به هو اعتراف بعطية الله. لكنه أيضا دعوة واضحة لفحص ضميرنا، فهل نفعل بما نؤمن؟ وهل نعيش حسب ما نجاهر: "لأنَّكَ تُزَكَّى بكلامِكَ وبِكلامِكَ يُحكَمُ عليك" (متى12/37). كما أن المجاهرة بهذا الدستور قبل كلام التقديس هو مناسبة لمسائلة شخصية وفحص ضمير لأعرف أين هو قلبي “فحيث يكون كنزك يكون قلبك" (متى 6/20). قال يسوع "لا تخافوا" فأبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة لأن مؤسسها هو المخلص وهي قوية بحضوره فيها وقوية بالناس الذين يرددون دوما قانون الإيمان.

4- الأنافورا

 

كلمة يونانية تعني التقدمة وفيها يتم تحويل الخبز والخمر إلى جسد ودم يسوع المسيح. يبدأ سر الأنافورا عندما يُعلن الكاهن: "لنقف حسنا.."، إنها دعوة لتجلي المؤمنين ليعاينوا مجد الرب ودعوة ليصعدوا باستمرار إلى المذبح، مذبح الكنيسة ومذبح المجد والنور والفرح: "ربِّ حسنٌ أن نكونَ هَهُنا" (متى17/4)  القداس الإلهي هو ارتقاء إلى فوق حيث أصعدنا المسيح وسيصعدنا إلى الأبد: كما نصلي في الصوم الكبير "إذا وقفنا في هيكل قدسك نحسبُ أننا واقفون في السماء".

يبدأ الأنافورا بحوار بين الكاهن والشعب فيتوجه الكاهن للشعب ويؤكد لهم أن الرب معهم "نعمة ربنا.. لتكن مع جميعكم" هذا السلام المأخوذ من رسالة القديس بولس الرسول (2كور13/13) يعني أننا واحد مع المسيح في كنيسته الواحدة  نجتمع معه وباسمه. ثم يدعو الكاهن المؤمنين ليرفعوا قلوبهم إلى العلاء، لأن الافخارستيا تتم في السماء وأيضا لنجعل السماء في قلوبنا. والشعب يجيب: "ها هي عند الرب" أي أننا بدأنا بالصعود متجهين نحو السماء، حيث عرش الله وملكوته. ثم ينادي الكاهن  لنشكرن الرب ويجيب الشعب "واجب وحق" فالله وحده قدوس وجدير بالشكر وشكره واجب لأنه أهلنا أن نقيم هذه الذبيحة.

5- كلام التقديس

 

يبدأ الكاهن في الجزء الثاني من الافخارستيا بتقديس التقدمة، وفيها نُعيدُ تذكار حدث مُحدد هو العشاء الأخير الذي أتمّه المسيح مع تلاميذه قبل آلامه وموته على الصليب. يرفع الكاهن الشكر لله ويمجده ويسبحه مع الملائكة ويتذكر السر العظيم غير المدرك وهو يردد كلمات يسوع المسيح المخلص التي تعبر عن السر: "خذوا فكلوا.. أشربوا من هذا.." بهذه الكلمات تكتمل الذبيحة، لأن الخبز لم يعد خبزا وما في الكأس لم يعد خمرا، إنما الخبز أصبح جسد المسيح والخمر أصبح دم المسيح الذي فاض من جسده وهو على الصليب. لكن كيف لعقل بشري أن يفهم هذا؟ ألم يقل يسوع: "هذا هو جسدي.. وهذا هو دمي..إفعلوا هذا لذكري". ومن ثم ألم يقل بولس الرسول بأن معرفتنا جزئية على هذه الأرض "فمتى جاء الكامل زالَ النَّاقص.. فنحنُ اليوم نَرى في مِرآةٍ رؤيَةً مُلتَبَسة، وأمّا يَومَذاك فتَكونُ رُؤيتُنا وجْهًا لِوجْه" (1كور13/9-12). لقد "بلغ حب يسوع إلى أقصى حُدوده" (يو13/1) والافخارستيا هي تمام المحبة، هذا هو سر المسيحية وسر كل مسيحي، لقد تحولت قرابيننا إلى جسد المسيح ودمه.

6- الاستدعاء

بعد كلام التقديس يرفع الكاهن القرابين مرددا "ما لك مما هو لك، نقربه لك.." إنها صلاة للآب السماوي فالذبيحة التي منحنا الله إياها صارت ذبيحتنا والمحبة الذبيحة انتصرت والمسيح تخلّى عن ذاته من أجل حياة العالم وحمل خطايانا  أما نحن البشر "فتذكّرنا وصيته الخلاصية وكل ما جرى لأجلنا، الصلب والقبر والقيامة..".

بعدما تقديم الشكر على كل شيء يرفع الكاهن الصلاة ويستدعي الروح القدس ليحلَّ "علينا وعلى القرابين" وتجيب الكنيسة "آمين" إن المسيح الخبز السماوي يحوي كل إيماننا وهو يريد أن يوحدنا في حياته وهو لم يكتف بإرسال  الروح القدس ليسكن فينا بل وعدنا بأن يكون معنا إلى انقضاء الدهر (متى 28/20) فاستدعاء الروح القدس: "أرسل روحك القدوس علينا.." هو نتيجة اجتماعنا في الكنيسة ولفهمنا كلمة الله لأننا بالروح نرتقي ونشكر ونتذكر ونستعد لتناول جسد ودم يسوع وبه أيضا تُوزع القرابين على المؤمنين . هنا يجب أن نفهم بأن الكاهن عندما يقوم بتقديس الأسرار يعتمد على الله فقط وليس على أية قوة بشرية وهذا التقديس  يحصل استجابة لصلواتنا لأن الله وعدنا بمنحها.

7- الذكرانيات

يذكر الكاهن في هذا القسم القديسين الذين توفُّوا على الإيمان، الأجداد والآباء ورؤساء الآباء والأنبياء والرسل والكارزين والمبشرين والشهداء… وخصوصا العذراء مريم، والدة الإله، ثم يذكر الأحياء ومنهم رؤساء الكنيسة، البابا، البطريرك ومطران الأبرشية. ثم يذكر الشعب الحاضر ويطلب لهم السلام والوئام ووفرة الحياة. هذه الصلاة هي علامة واضحة لاتحاد الأغصان بالكرمة، فالكل يصير واحدا مع المسيح والكل يبتهل من أجل "جميعهم وجميعهن". إنها صلاة ابتهاليه لجمع الكنيسة، جسد المسيح، لأن الرب منذ صعوده إلى السماء لا يزال يُنعم علينا بروحه القدوس، صانع الوحدة وموزع المواهب فالروح وحده يوحد بشريتنا بلاهوت يسوع فنصير معه جسدا واحدا في شركة روحية واحدة، هذا يعني أن نصير، بنعمة الروح القدس، موحدين بالآب بواسطة المسيح. هذه الصلاة تبرز أيضا البعد الكوني للإفخارستيا، فالليتورجيا التي هي سر الأسرار، تجمع أبناء الله، الأحياء في هذه الدنيا والأحياء في الآخرة، في كنيسة واحدة وبدون تفرقة لأن البشر كلهم سيولدون في الكنيسة.

8- صلاة يسوع

 

أجمل ما في المسيحية هو ندعو الله "أبانا"، فبعدما ارتقينا بإيماننا وجعلنا المسيح فيما بيننا وصلينا من أجل بعضنا صرنا أهلا للتبني الإلهي فيصلي الكاهن ليؤهل الذين شاركوه الذبيحة الإلهية, أن يجسروا ويدعو الله "أبا". هذه الصلاة تختصر بكلمات بسيطة تاريخ الفداء ومعنى تجسد المسيح وهو يريدنا أن نرى بأن كل صلاح يأتي فقط من الآب السماوي. 

أراد يسوع أن يفهم تلاميذه ونحن من بعدهم أبعاد أبوة الله فهو أولا أب لأنه خالق وبما أنه خلقنا فنحن خاصته وهو يعرف كل واحد منا يناديه باسمه ويريده أن يكون ابنا له. كما أننا خلقنا على صورته ومثاله وقد أخذنا هذه الصورة من المسيح يسوع ابن الله.

في كل مرة نصلي الأبانا يجدد الآب السماوي دعوته لنا لنعيش مثل الابن كما نكتشف في صلاة يسوع: "ما هو لي فهو لكَ وما هو لكَ فهو لي" (يو17/10) كما يحثنا لنعيش في شركة روحية معا، في عائلة واحدة تتخطى كل الحدود الزمنية.

9- المناولة

 

قبل دعوة الناس المستحقين للمناولة يردد الشعب ثلاثا :اللهم اغفر لي أنا الخاطئ" ثم ينادي الكاهن "القدسات هي للقديسين" فيجيب الشعب بأن القدوس واحد هو الرب يسوع المسيح. ثم ينادي "بمخافة الله وإيمان ومحبة تقدموا". إنها دعوة لكل المؤمنين ليدنوا من المائدة المقدسة لكنها أيضا دعوة لهم ليسعوا للكمال ورغم أنهم غير مستحقين لا شيء يمنعهم من التقدم للمناولة لأن سعيهم المتواصل إلى الله هو الذي يؤهلهم بأن يتناولوا الأسرار المقدسة. وفي الوقت ذاته على المؤمنين أن يشعروا بضرورة تطهيرهم وأن يندموا على خطاياهم ويعترفوا بها ويجهدوا في سعيهم ليكونوا أكثر كمالا.

عندما قال يسوع "خذوا فكلوا.. واشربوا كلكم" أراد أن يربط هذه الذكرى التي نحتفل بها بالمناولة، فلا يجوز أن نأتي الكنيسة ونغادرها دون أن نشترك في الأسرار المقدسة لأننا نكون قد انفصلنا عن الشركة الروحية التي دعانا الله إليها: "أما نحن جميع المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحدة. فاجعلنا مُتحدين بعضنا ببعض في شركة الروح القدس الواحد".

10- الشكر عطية من الله

 

بعد المناولة المقدسة التي كانت غذاء نفوسنا، يرتفع المسيح إلى السماء لكن مجده يبقى معنا. ثم ينهي الكاهن والشعب الخدمة بتسبيح الله وشكره "لتمتلئ أفواهنا من تسبحتك.." إن عطايا الله تقودنا دوما إلى حمده وشكره فكل الخيرات المادية والروحية تصلنا عندما نصلي، لذا نذكرها بشكر لأنها من لدن الله وفي الوقت ذاته نطلب منه أن يقوينا ويثبت خطواتنا ويصون حياتنا.

في نهاية القداس الإلهي يخرج الكاهن من الهيكل ويتوجه إلى أيقونة يسوع مبتهلا باسم الشعب ويطلب نِعَمَ الله للكنيسة والحكام وللشعب وللكهنة ويعترف باسم الجميع أن العطايا التي نحصل عليها هي من الله فيجيبه المؤمنون "ليكن اسم الرب مباركا من الآن وإلى الدهر". يخرج الشعب من الكنيسة إلى حياتهم اليومية ليشهدوا بأن الله حاضر في حياتهم فقد أصبحوا من جديد الخميرة الصالحة والملح الجيد، اختارهم الرب ليظهر مجده في هذا العالم.