التواضع فضيلة تؤلّه الإنسان (1)

بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني

Share this Entry
ZENIT.org). – تبقى وجهة سير الإنسان الخلاصية رغم صعوبة المسيرة وكثرة مشقّاتها مُصوَّبَةً نحو الله، معطي الحياة والهدف الذي تصبو إليه، نبع الحياة وملء الكمال. من هنا يكمن عمل الروح القدس في دفع الإنسان إلى الاجتهاد في البحث والدخول إلى عمق المنطق الإلهي كي يمتزج ويمتلأ من مواهب الله وفضائله. فكما أن عمل الروح القدس في مريم العذراء أدخل الخلاص إلى البشرية بتجسد يسوع المسيح وبواسطة الطبيعة الترابية، فإنه يعمل دائماً على دخول عالم كل مؤمن ويحثّه على التقرب من خالقه، وعلى عبادَتِه وتوجيه كامل إرادته وكيانه نحوه. يبقى التواضع الأداء الوحيد الذي يدفع بالإنسان لمعرفة الله، الحقيقية المطلقة، طالباً القربَ منه، معترفاً به ربّاً وإلهاً ومُقِرّاً بالوقت عينه صِغر قدرة الإنسان الترابية ومحدودية إدراكه.

إن ميلاد المسيح يسوع وتجسده فينا وبيننا جعلنا نكتشف المعنى الحقيقي والكامل للتواضع، إذ بات يُشكل ميزة أساسية لا تتجزأ من هوية الله الخالق، مما دفع بالإنسان إلى طلبها لأنه أدرك أنه من خلالها يمكنه الإتحاد بالله، دفعه إلى البحث عن الحقيقة الكاملة التي فيه، إلى اقتناءها وتفعيلها في عمق ذاته وأدائه.              

للتأمل في فضيلة التواضع وشرح هويته ومعنى مفاعيله، لا بدّ من التمعّن في خبرات آبائنا القديسين وكتاباتهم، المعلمين الروحيين منهم، وأخص في هذا المجال أحد كبار آباء الكنيسة السريانية الشرقية، ألا وهو إسحق السرياني المعروف أيضاً بالنينوي. قبل البدء بعرض نظرة إسحق وفكره عن التواضع، لا بدّ من التوقف ولو للمحة وجيزة على حياته:

ينتمي إسحق إلى الكنيسة السريانية الشرقية، المعروفة بالنسطورية أو الآشورية؛ عاش في المرحلة الأولى من القرن السابع في منطقة “بيت قطرايا” المعروفة حاليا بقطر. عاش قسماً من حياته كراهب، ناسك، وتمت مناداته لتولّي منصب أسقفية نينوى، فتمت رسامته ما بين الأعوام 660 و680، صمد 5 أشهر فقط على كرسيه، ولأسباب مجهولة تركه عائدا إلى حياة الزهد قبل أن يستقر في دير “رابان شابور” حيث مدفنه. في نهاية أيامه أصيب بمرضٍ أفقده البصر، فكان يتلو أحاديثه على مسامع تلاميذه وكانوا هم بدورهم يدونونها.

وُضعت مؤلفاته ضمن مجموعة أحاديث، صدر منها ثلاث مجموعات تُرجمت للغات عديدة؛ وبدءً من القرن التاسع كان قسم كبير منها قد تُرجم للغات مختلفة منها اليونانية، والعربية (المصرية والشرق أوسطية)، والجورجية، والأثيوبية، والسلافية واللاتينية، وفي وقت لاحق صدرت في اللغات الأوروبية الحديثة (أقدم ترجمة منها هي الإيطالية وتعود إلى العام 1500). كل هذه الترجمات تدل على مدى حب قراءة هذه النصوص لغنى مضامينها وعمق روحانيتها بالرغم من انتمائه لكنيسة “غير خلقيدونية” أي غير مستقيمة الإيمان.

من أهم المواضيع التي يتناولها في أحاديثه: معرفة الله، تحدي قوى الشر والتحول الداخلي، كشف عمق الذات الإنسانية ووضعها في خدمة النعمة الإلهية، وهذا ما يعود دائما على ذكره في أحاديثه.

أحد القرّاء المسيحيين من القرن التاسع، يدعى “ابن السلط”، يلقي الضوء على موضوعَي الرحمة والتواضع في أحاديث إسحق، إذ يقول: ” (إسحق) بشّرَ بإلحاحٍ عن حبِّ الرحمةِ أساسِ العبادة، وعن التواضعِ قاعدةِ الفضائل“.

1-  التواضع: صورة الله وحقيقة الإنسان

في المجموعة الأولى من الأحاديث، الحديث رقم 82 تحديداً، يجاهد إسحق في إلقاء الضوء على العناصر الأولى والأساسية للتواضع المسيحي، إذ يشدد على أن التواضع ليس فضيلة بحسب المفهوم الفلسفي اليوناني، أي أنه ليس أداة لمظهر العيش إنما حالة جذرية، يسعى المؤمن من خلالها لتكوين الذات بملئها، أي أن يكون مخلص لدعوته الإنسانية والمسيحية؛ فالمؤمن يجاهد للحصول على هذا السعي لأن التواضع بحد ذاته هو حقيقةً هوية الله إذ يصفه إسحق بالرحمان والمتواضع، مستشهدا بقول المسيح “تعلموا مني أنا الوديع والمتواضع القلب”  و”الله محبة“، مستنداً على شهادة آباء الصحراء : “باستطاعة الشيطان أن يُقلّد الله بالصوم لأنه لا يأكل، وفي النوم لأنه لا ينام، ولكن التواضع والمحبة والرحمة فلا يستطيع عليها، لذلك علينا نحن المجاهدة للحصول عليها“.

يميّز إذن إسحق، كنقطة أولى، هدفين للتواضع:

الأول، جعل الإنسان ملآن من الذات الإنسانية، أي السعي للكمال الإنساني؛

والثاني، وضع الإنسان على سكة أو طريق محدد لمعرفة إلهه والإتحاد به، أي السعي للكمال الروحي.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير