بقلم المطران يوحنا ابراهيم
رئيس طائفة السريان الأرثوذكس بحلب
حلب، الخميس 12 مايو 2011 (ZENIT.org). – لا أحد ينكر بأننا أمام أزمة خرجت علينا فجأة وبدون إنذار ! فسورية قدّمتْ نفسها، لعدة قرون خلت، أنموذجاً للوطن الآمن، وكنا نحن السوريين في كل أقاصي الأرض مضرب مثل لنعمة الأمن والآمان اللذين كانا سائدين في بلادنا، رغم كل التوترات التي عاشتها المنطقة بدءاً من الحرب العربية ـ الإسرائيلية، ومروراً بالحرب الأهلية في لبنان، واحتلال الكويت، ثم العراق، وغيرها من الحروب التي عرفتها المنطقة بعد الخمسينيات من القرن المنصرم. ولهذا حسدنا الأبعدون والأقربون للأمن والأمان اللذين كانا مستتبين في كل جنبات هذا الوطن الغالي، هذا بالرغم من الإعلام المغرض والموجَّه من خصوم سورية وأعدائها، وفي بعض الأحيان كانت الإشاعات تأتي من البلدان المجاورة !!! ولكن الغريب قبل القريب، والأجنبي قبل العربي، كان يشهد بأن ما تعيشه سورية من أمن وآمان في كل ساعات اليوم الواحد، وفي الفصول الأربعة على مدار السنة، لم يكونا متوفرين حتى في أرقى بلدان العالم.
لا بد لي أن أقدّم لكم شهادة حية وقعت في مدينة حلب البطلة ! إذ بعد التسعينيات من القرن الماضي، دعونا إلى مؤتمر ديني عدداً كبيراً من ممثلي الكنائس المسيحية، خاصة من أوروبا، ومن الولايات المتحدة الامريكية، بعضهم اعتذر بخجل من الحضور بحسب توجيه سفاراتهم، وبعضهم الآخر تجاوز تحذير بلدانهم نزولاً عند رغبتنا، فحضر !!
لا تستطيعون أن تتصوروا كيف تغيرت رؤية الأجانب لسورية عندما جاءوا إليها، إذ وجدوا أن الأمن والآمان متوفرين بكمٍّ هائل، حتى بعد منتصف الليل عندما كانوا يعودون من إحدى مطاعم المدينة، وكان الأمن بمثابة عَلَم يرفرف فوق كل شبر من أرض وطننا الغالي. وعندما عاد المؤتَمِرون إلى أوطانهم، أصبحوا أبواقاً صارخة في وجه أعلامهم، وكانوا شهوداً أحياء لما عرفته سورية، فأعلنوها بصوت عال من أن سورية هي أكثر بلد في العالم يتوفر فيه أمان حقيقي، والمواطن السوري والمضيف، كلاهما يمارسان الحرية الشخصية من مبدأ أن الأمن يحمي الجميع، والآمان يظلل الكل ليل نهار دون تمييز.
الأمن الذي كنا نفتخر به، ونُعلن عنه، نراه اليوم مزعزعاً في بعض مدننا في سورية. فالسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا نجعل من أنفسنا آلة خراب ودمار لمخطط جهنمي كبير يعمل على تحقيقه أعداؤنا، ويهدف هذا المخطط إلى تفتيت منطقتنا وتقسيمها وتجزئتها ؟!
لقد تابع العالم كله كلمة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد التي وجهها إلى الحكومة الجديدة، والتي قال فيها بصوت مليء بالإيمان : أن المرحلة القادمة ستحقق ثلاثة أمور هامة وحيوية للمواطن، وهي، أولاً : العدالة، فالإنسان الذي كان يشكو من أن العدالة غير متوفرة في المجتمع، ولغة الطبقية تجاوزت حدود التقليد المتعارف عليه، أدرك أن هذا الأمر لم يبقَ مستحباً ولا مقبولاً، لأن العدالة ستأخذ مكانتها في حياة الفرد والجماعة. ومن مفرزات هذه الأزمة أن عيون المسؤولين تفتحت على مهام جديدة، وآمال كبيرة، منها أن تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بكل أبعادها في المجتمع.
والأمر الثاني : هو الأمن، كلنا نتغنى بالأمن الذي يخيّم على سماء الوطن، وكلنا نعتقد أن الأمن نعمة سماوية أغدقها الله على سورية أرضاً وشعباً. فمن منّا شعر في يوم من الأيام أن حياته مهددة بالخطر، أو أنه تعرض إلى تهديد أو وعيد لممتلكاته، أو أن أفراد عائلته مهددون من جهة ما، تعمل لأجل بث الخلل في الأمن الدائم في سورية ؟؟
لا بل كلنا نشهد أنه بعد وقوع جريمة ما، كانت الجهود المكثفة تتضافر من قِبَل المسؤولين من أجل كشف ملابسات الجريمة، وإعلانها في الإعلام بشفافية ووضوح، وهذا الأمر كان يقوي معنويات المواطنين من جهة، ويؤكد من جهة أخرى بأن الأمن هو من أهم أولويات اهتمام المسؤولين في الوطن.
والأمر الثالث والأخير : هو الكرامة، كرامة الإنسان، إنها كلمة واحدة، ولكنها ذات أبعاد كبيرة، فالمواطن تحميه كرامته أمام القانون، وأيضاً عندما يكون في مواجهة أكبر المخاطر وفي أصعب المراحل التي يمر بها الوطن.
صحيح أن مواطننا ساءته بعض المشاهد السلبية مثل : البطالة التي تفشت في الآونة الأخيرة، وزادت عن معدَّلِها، مما أدى إلى قلقٍ كبير عند الأفراد والعائلات.
وصحيح أن الفساد قد عمَّ، وعرفت سورية أشكالاً من الفساد لم يكن معهوداً في تاريخها البعيد والقريب.
وصحيح أن المجتمع عرف أيضاً ظاهرة الفقر، ومن آثاره التسول، الظاهرة السلبية الجديدة التي نراها أمام أبواب دور العبادة، وفي الشوارع العامة، وفي كل مدننا.
وصحيح أن إهمال المسؤولين، وعدم معاقبة المسيئين، ومحاسبة المقصرين في واجباتهم، أدّى إلى انتشار الرشوة وإفرازاتها من الظواهر السلبية، ولكن هذا كلَّه لا يبرر أن يتخلى الإنسان عن هُوِّيته كمواطن، ويعمل بيده من أجل تخريب البلد ودماره !!
إننا كمواطنين نرى بأن مفهوم المواطنة يعني المشاركة الفعلية في سبيل بناء الإنسان والوطن في آن، وذلك عن طريق الحوار الوطني في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والأمن والآمان والكرامة لكل المواطنين، والعمل من جهة أخرى بكل معاني الإخلاص و
الوفاء ومحبة الوطن لاقتلاع جميع أنواع الفساد من جذوره، ومكافحة البطالة والفقر، وإقفال كل أبواب الترهل، وعدم المسؤولية، والإهمال، والعمل بيد واحدة لنهضة وطننا الغالي.
في هذا الظرف الصعب جداً، خاصة أن الغرب يتكالب على وطننا الآمن، ويشوه صورته في المحافل الدولية، وفي الإعلام الغربي، نحن بحاجة ماسة إلى إعادة بناء جسور الثقة بيننا كمواطنين أولاً، وبيننا وبين المسؤولين في هذا الوطن ثانياً.
كما أننا بحاجة إلى أن نؤمن بأن الإصلاح ليس شعاراً فحسب، بل هو من أجلِّ المبادئ الذي يجب أن نعتنقه ونعمل على تحقيقه، ولكن هذا الإصلاح لا يأتي عن طريق المظاهر السلبية، واستخدام العنف، والقمع، وإرغام الآخر على قبوله، وإلا تبقى المراهنة على مصير هذا الوطن محفوفة بالمخاطر، ويصعب على المواطن أن يعرف المستقبل الذي ينتظره، لهذا فمن واجبنا نحن الذين نؤمن بأن الحوار هو أهم طريق للإصلاح، أن نمد اليد إلى من يريد أن يعمل من أجل الخير العام للوطن والمواطن.
أرجو وأصلي أن يحقق الله آمال شعبنا في أن تترسخ مفاهيم العدالة الاجتماعية، والتلاحم الوطني، والإخاء الديني، والعيش معاً رغم تنوع انتماءاتنا المذهبية والدينية والاثنية والثقافية، وأن تسود الحرية بمعناها الواسع والتي تدعو إلى المعرفة وتبعد كل أشكال الجهل عن الإنسان والوطن، وأن يعمَّ السلام والأمن والآمان في سورية، فيقبل واحدنا الآخر تحت سقف المواطنة، وتتوقف كل حركة تدعو إلى الاحتراب والنزيف على قاعدتي الحوار والتعددية، وأن يحمينا من كل أذى وضرر وشر يريده لنا أعداؤنا.