دور العراق الجديد في بناء مجتمع تتعايش فيه الأديان والثقافات

بقلم: حبيب محمد هادي الصدر

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

سفير جمهورية العراق لدى الفاتيكان

روما، الخميس 26 مايو 2011 (ZENIT.org).- لقد تجرع المسيحيون كإخوانهم المسلمين وباقي أطياف المجتمع العراقي عذابات الوضع الامني المتازم بعد التغيير تهجيراً وترويعاً. ونالوا قسطهم من الاستهداف كمحاولة من قبل الارهابيين لجلب أنظار العالم الغربي وتفريغ البلاد من هذا المكون وتشويه السمة التعددية الديمقراطية للعراق الجديد وتغيير الموقف الغربي الايجابي منه فضلاً عن خلط الاوراق السياسية بالدينية. إلا أن يقظة ووعي العراقيين وتماسكهم والاجراءات الامنية الفاعلة التي إتخذتها الحكومة قد أحبطت هذه الاهداف الشريرة. لذلك لم نلحظ بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة أية إستهدافات جديّة. والحق أن كل الهجمات التي طالت مسيحيي العراق كانت محل شجب وإدانة من كل المكونات العراقية وهذا الموقف ليس نابعاً من شعور عال بالمسؤولية فحسب بل من عقيدة إسلامية أيضا حيث حرم الدين الاسلامي قتل النفس البريئة بغير حق وعدّه من الكبائر الشنيعة وجاءت تعاليم الاسلام بوجوب مجادلة أهل الكتب السماوية بالتي هي أحسن ومعاملتهم بإنصاف كون الجميع أتباع النبي إبراهيم (ع) فإحترمهم المسلمون منذ نشوء الدولة الاسلامية وحفظوا لهم العهد وظلوا يمارسون طقوسهم بكامل الحرية وتمتعوا بحماية السلطة المسلمة. إن المسلمين يؤمنون بنبوة موسى وعيسى (ع) وبرسالتيهما كإيمانهم بنبوة محمد (ص) ورسالته مما يدل على ترحيب الاسلام بالتنوع والتعددية وعدم إجازته أفعال الشر والتدمير تحت أية ذريعة.

إن الدستور العراقي الجديد كفل للمسيحيين والأقليات الدينية الأخرى المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات مع مواطنيهم المسلمين لا بل سمح للمسيحيين في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية بإنشاء إقليم خاص بهم كإقليم كردستان وأن يتخذوا لغتهم السريانية لغة رسمية في المدارس والدوائر الحكومية إن رغبوا هم في ذلك. كما نصت المادة (37) منه على قيام الدولة بحماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني فيما تضمنت المادة (41) حرية العراقيين عى إختلاف أديانهم وقومياتهم بالالتزام بأحوالهم الشخصية حسب معتقداتهم وإختياراتهم وتنظيم ذلك بقانون. وسيوضع هذا القانون في جدول أعمال مجلس النواب العراقي بوقت قريب وسيعالج وضع القاصرين المسيحيين الذين يتم تغيير ديانتهم من المسيحية الى الأسلام تبعاً لإعتناق أحد أبويهم الأسلام. كما سيعترف بالمحاكم الكنسية الخاصة التي ستبت في الاحوال الشخصية للمسيحيين طبقاً للقانون الكنسي. أما وزارة حقوق الانسان التي هي من ثمرات العراق الجديد فقد أفردت دائرة متخصصة بالإثنيات والأديان وتعمل على رصد الأوضاع الانسانية لها وتأشير أية إنتهاكات تمس حقوقها خلافاً للدستور العراقي والأعلان العالمي لحقوق الانسان.

   أما قانون الانتخابات العراقي فقد كفل لهم حصة ثابتة مكونة من خمسة مقاعد نيابية مضمونة عدا ما يمكنهم الفوز به عبر القوائم الانتخابية الأخرى. وهي ميزة لم يمنحها قط لأي مكون آخر. كما سمحت الحكومة لهم بتشكيل الاحزاب والنوادي ومنظمات المجتمع المدني التي تعبر عن هويتهم وشواغلهم. وفعلاً إنخرط الكثير منهم في العملية السياسية ولمعت منهم شخصيات إحتلت موقع الصدارة في البرلمان الاتحادي وبرلمان إقليم كردستان وعندما تشكلت الدولة العراقية الحديثة عام 1921 كان السيد (يوسف غنيمة) أول مسيحي إستلم حقيبة لوزراة المالية وهي من الوزارات السيادية أما اليوم فيمكن أن نرى المسيحيين وزراء وسفراء ووكلاء وزارات ومدراء عامين في الدولة العراقية الجديدة ويتابع الشعب العراقي نشاطاتهم من خلال فضائياتهم الخاصة كأشور وعشتار وإذاعاتهم وصحفهم.

كما بادرت الحكومة العراقية بتاسيس هيئة مستقلة للوقف المسيحي والاديان الأخرى تعنى بالحفاظ على الموروث الثقافي لهذه الاديان وصيانتها ورصدت سنوياً لذلك أموالاً غير يسيرة من موازنتها. وهي حريصة على تفعيل السياحة الدينية المسيحية وتشجيع مسيحيي العالم على زيارة العراق والحج من مدينة أور التاريخية مولد أبي الانبياء إبراهيم (ع). وتحريك حوار حقيقي مثمر بين المسيحيين والمسلمين يفعل المشتركات وينحي الخلافات بلوغاً لرؤية جماعية لمواجهة تحديات العصر الراهنة وعلى رأسها الارهاب والتطرف. ولكن عند السؤال هل وصل هذا الحوار درجة النضج المطلوبة؟ أقول لا . وأعزوه الى حالة الانطواء التي يتميز بها المشهد المسيحي العراقي الحالي. وهشاشة الشراكة بين الكنائس العراقية المختلفة ومحدودية المبادرات من الأطراف الاسلامية. ويؤمل أن تؤدي الظروف الايجابية المقبلة الى انبعاث حوار حقيقي في أجواء ثقة ورغبة مشجعة من قبل جميع الاطراف.

وقد أعادت الحكومة العراقية للكنيسة العديد من مؤسساتها التعليمية والصحية التي أممتها الأنظمة السابقة وهي تقف إجلالاً لدور الآباء اليسوعيين والشخصيات الفكرية والتربوية المسيحية في إغناء الفكر والثقافة العربية والعراقية على وجه الخصوص. وهي مستعدة لفتح الأبواب من جديد لهؤلاء الآباء لممارسة أنشطتهم بكل حرية. كما سعت الحكومة الى تأمين الملاذات الأمنية للعوائل المسيحية التي تشعر بالتهديد بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان وتحقيق الأجواء المثالية لممارسة المسيحيين لحرياتهم الدينية وحقوقهم الدستورية. وهي تعكف حالياً على تشجيع المهجرين والمهاجرين المسيحيين وغيرهم للعودة الى العراق والاسهام في إعادة إعماره وذلك عن طريق حزمة من التسهيلات والامتيازات
القانونية والمالية. كما ناشدت قداسة الحبر الاعظم على حثهم للعودة الى أحضان الوطن وهذا ياتي من إيمانها الراسخ بأن مسيحيي العراق هم مكون أساسي وتاريخي وشريك فاعل في العملية التحولية الجارية في البلاد. وقد استحدث فخامة الرئيس (طالباني) مكتباً في ديوان رئاسة الجمهورية يعنى بشؤون مسيحيي العراق ويتابع وينسق كافة الاجراءات الأمنية والاقتصادية والسياسية المتعلقة بهم بغية إختزال الروتين وتأمين السرعة في إتخاذ القرارات. والعراق اليوم يعد الأكثر استقراراً في المنطقة بسبب أنه استبق أشقاءه بمنجزه التحولي الديمقراطي بثمان سنوات، ففيما تغرق دول المنطقة اليوم بحركات إحتجاجية دامية يحظى العراق بهدوء ملحوظ. ولعل إنشغال أنظمة المنطقة بأوضاعها الملتهبة وقمع الجماهير الغاضبة قد أسهم في ثنيها عن سعيها المحموم والدائم في إذكاء الأوضاع الأمنية في العراق. قد ساعد على توفير المزيد من الاستقرار الأمني.

إن العراق الجديد مقبل على قفزة إقتصادية هائلة في السنوات القليلة القادمة جراء الارتفاع الملحوظ في مدخولاته المالية نتيجة زيادة إنتاجه من النفط الذي سيبلغ (3،3 مليون برميل يومياً) في عام 2012 ثم الى (4،5 مليون برميل يومياً) في 2013 و (6،5 مليون برميل يومياً) في 2014 الأمر الذي سيجعل البلاد ورشة عمل هائلة وحالياً تتهافت الشركات العالمية من كل صوب على العراق لحجز فرص عمل لها.

هذه المتغيرات الايجابية ستساعد على عودة المهاجرين والمهجرين العراقيين سواء كانوا من المسيحيين او باقي الأطياف الأخرى الى العراق والأنخراط من جديد في عملية النهوض بالبلاد على كافة الأصعدة. وبذا يتلاشى ضغط العامل الاقتصادي الذي ألجأ البعض الى الهجرة كما ينتفي العامل الامني بسبب تعاظم القدرات الامنية العراقية على بسط الأمن والاستقرار. وبتوفر العاملين الامني والاقتصادي مع وجود أجواء تسامحية حميمية بين أبناء الشعب العراقي الواحد . سيكون للوجود المسيحي وللوجود الديني غير الأسلامي في العراق (إن شاء الله) مستقبل واعد وسيكون إنموذجاً يحتذى للتعايش السلمي والحريات الدينية  في منطقة الشرق الاوسط برمتها.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير