بكركي، الاثنين 2 أبريل 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني في عيد الشعانين وذلك في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي – بكركي.
* * *
1. حدث الشعانين، وهو دخول الرب يسوع الى أورشليم لآخر مرة قبل آلامه وصلبه، واستقباله من الجمع الغفير الآتي الى العيد استقبالاً ملوكياً، يحمل أبعاداً نبويّة. فيكشف ميزة ملوكية المسيح ونوعية مشاركتنا في هذه الملوكية بحكم المعمودية. ويسعدنا أن نحتفل مع أطفالنا وشبابنا بعيد الشعانين الذي هو عيدهم، ونصلّي لكي يكونوا شهوداً ليسوع المسيح، الملك الوحيد والسيد المطلق، كما صنع الأطفال والشبان في شوارع أورشليم، إذ “حملوا سعف النخل الزيتون وخرجوا الى ملاقاة يسوع”(يو 12: 13).
2. يسوع يدخل لآخر مرة الى اورشليم، حيث سيتألّم ويموت فدى عن العالم كله، ويقوم لتقديس جميع الشعوب، وحيث استبق موته وقيامته بإنشاء سرَّي القربان والكهنوت، في عشاء الفصح القديم الأخير، من أجل استمرارية ذبيحة موته، في كل مكان وزمان، ومائدة جسده ودمه ليحيا بها كل إنسان مؤمن به. فكان السرُّ الفصحي للعهد الجديد الذي به الخلاص لجميع الناس.
أُقيم استقبالٌ عفوي من الجماهير التي أتت الى اورشليم من أجل عيد الفصح، قبل أربعة ايام، لأنَّ صيته كان ذائعاً بسبب انه أقام لعازر من الموت بعد دفنه بثلاثة ايام. وهذه كانت آية للدلالة على قيامته هو من بين الأموات التي ستجري بعد اسبوع، والتي بها يقيم جميع الموتى في قلوبهم ونفوسهم وضمائرهم بالخطيئة والشرّ، اذا تابوا، والتي بها يفتح باب السماء لجميع الذين يعيشون في صداقة الله ونعمته.
3. إستقبلوه استقبالاً نبويّاً، إذ حيّوه تحية الملوك، كباراً وصغاراً. فحملوا أغصان النخل والزيتون للدلالة على أنَّ يسوع هو ملك الأزمنة الجديدة، ملك الانتصار على الشرّ وملك السلام، وهتفوا: ” هوشعنا، يا رب خلّصنا! مبارك الآتي باسم الرب، ملك شعب الله.”وظهرت ميزات مملكة يسوع التي هي الكنيسة، شعب الله الجديد، من الكلمات والافعال والمبادرات، وهي ميزات أربع ينبغي أن يتحلّى بها كلُّ صاحب مسؤولية في الكنيسة وفي المجتمع.
التواضع: لم يدخل يسوع المدينة كفاتح منتصر بقوة السلاح والعنف، بل بالتواضع، راكباً جحشاً، جاعلاً من نفسه قدوة، وقد قال يوماً: ” تعالوا اليَّ، وتعلّموا مني، اني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم”(متى 29:11).
المحبة التي حدتْ بيسوع إلى بذل ذاته فدى عن الجميع، مائتاً على الصليب من اجل خلاص كل انسان، وتحريره من عبودية الخطيئة، وسائر العبوديات.
السلام الذي ينتزع الخوف من النفوس: “لا تخافي يا ابنة صهيون.” ليس سلام المسيح سلام الاقوياء على الضعفاء، ولا التسليم تحت وطأة الظلم والاستضعاف. بل سلام المسيح هو سلام المحبة والحنان والغفران والمصالحة السلام في القلب. لان يسوع بكلمته الانجيلية ينير العقول ويحرّرها من الازدواجية والكذب، وبنعمة اسراره يشفي النفوس من الخطيئة والميل الى الشرّ، وبمحبته المسكوبة في القلوب بعطيّة الروح القدس يولّد المحبة والحنان والمشاعر الانسانية لدى كل من يقبلها.
المصدر الإلهي لملوكية يسوع ومملكته التي هي الكنيسة. إنها تصدر من الله، وهي إلهية. هكذا حيّاه الجمع الغفير بكلمة المزمور: “مبارك الآتي باسم الرب”(مز 26:117). وسيقول يسوع لكنيسته الناشئة المثمثلة بالرسل الذين اختارهم وأشركهم في سلطان ملوكيته، قبيل صعوده الى السماء: “لقد أُعطيت كل سلطان في السماء والارض. إذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم كل ما أوصيتكم به وها انا معكم كل الايام حتى انتهاء العالم”(متى 18:28-20).
4. اننا بالمعمودية أصبحنا شركاء في ملوكية يسوع المسيح، وأعضاء في الكنيسة، مملكته الجديدة، لكي نتغلّب على الكبرياء والحقد والانقسام والعنف، وننتصر على الشرّ وروحه، ونزيل الظلم والاستضعاف، بنعمة المسيح وقوة الروح القدس.
وبحكم المعمودية، ينبغي على الذين يضطلعون بالسلطة في البيت أو المجتمع، أو في الكنيسة والدولة، أن يمارسوها بروح التواضع والمحبة والسلام، بعيداً عن المصالح الشخصية الرخيصة وعن التسلّط والروح الفئوية. وعليهم ان يتحلّوا بالفضيلة والتجرّد ويعملوا بتفانٍ من أجل الخير العام، موطّدين العدالة والسلام ومعززين الحرية والمحبة(الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان”، 113).
5. السلطة بجوهرها مدعوة لتجمع الناس، وتحرّرهم من الانقسامات. سمعنا في الانجيل أنه فيما كان الشعب يجتمع ويتوحّد حول شخص يسوع وحول الحقيقة التي كان يعلنها والخير الذي كان يصنعه، راح الفرّيسيون واهل النفوذ يتذمّرون ويتشكّون، متضرّرين من وحدة الشعب التي لا تتلاءم ومصالح نفوذهم القائمة على التفرقة والانقسام، وفقاً لقاعدة “فرّق تَسُدْ”، وأعربوا عن ذلك بقولهم بعضهم لبعض: “أنظروا، إنّكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم كله قد ذهب وراءه”(يو 12: 19).
ومنذ ذلك اليوم بدأوا يفكّرون ويخطّطون لاغتياله، وسيؤلّبون الشعب عليه بالكذب والافتراء، بحيث ان الذين هتفوا اليوم “هوشعنا”، سيهتفون بعد أربعة ايام “أصلبه”.
هذا الواقع المرّ يتجدّد مع الكنيسة ورعاتها في كل زمان ومكان. لكنها تقوى وتثق بالمسيح الذي قام من الموت كاشفاً الحقيقة التي تجمع وتوحّد وتحرّر. وهذه تبقى رسالة الكنيسة تمارسها بروح “الشركة والمحبّة”، مهما واجهها من رفضٍ واضطهاد. وهي على يقين بأنَّ الكلم
ة الأخيرة هي للحقيقة والنعمة. تعضدها كلمة المسيح الرب: “سيكون لكم في العالم ضيق. لكن ثقوا أنا غلبتُ العالم”(يو 16: 33).
ومن ناحية ثانية، نجد أنَّ الانسان يبحث في قرارة نفسه عن الحقيقة-الحقيقة، أعني الحقيقة الموضوعية التي تجمع وتُحرِّر. التوقُ إلى الحقيقة مُتمثِّل في أولئك “القَومُ من الأمم الذين، يقول عنهم الانجيل، جاؤوا إلى العيد وسألوا فيلبّس، أحد تلاميذ يسوع، عن رغبتهم: “يا سيِّد، نريد أن نرى يسوع”(يو 12: 20-21). أجل، الغاية من وجود الإنسان على الأرض قد حدَّدها الكتاب بقوله: “مشيئة الله هي أن يخلصَ جميع الناس ويبلغوا الى معرفة الحق”(1 تيم 2: 4).
6. لا يسعني، وقد عدنا أمس من زيارة رسمية إلى تركيا قمنا بها، بدعوة من الدولة، ودامت ثلاثة ايام، إلا ان نرفع الشكر لله على هذه الزيارة وعلى ما نتج عنها من ثمار تختصّ بالمواضيع التي عالجناها مع المسؤولين المدنيين والروحيين والكنسيين، وقد تناولت الحوار المسيحي- الاسلامي على مستوى الحياة والثقافة والمصير في بلدان الشرق الاوسط من اجل الوحدة والعدالة والسلام؛ العلاقات المسكونية والتعاون مع الكنائس من اجل الشركة والشهادة لمحبة المسيح ولانجيل الخلاص؛ الوجود الماروني والمسيحي في تركيا وحاجاتهم بالنسبة الى املاكهم؛ أوضاع الموارنة في جزيرة قبرص الذين تهجّروا من قراهم الاربع في القطاع التركي الشمالي، في اعقاب احداث 1974، وضمانة عودتهم اليها واستثمار أراضيهم فيها؛ مسألة المجازر التي ارتُكبت بحق اخواننا الارمن على يد العثمانيين في العامين 1914 و 1915، اثناء الحرب العالمية الاولى.
وأودّ الإعراب للسلطة التركية، لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، الذين شاؤوا هذه الزيارة، عن الشكر الكبير على الحفاوة الرفيعة واللقاءات الغنيّة بمضمونها التي جمعتنا مع كل واحد منهم، وعلى ترتيب اللقاءات مع رئيس الشؤون الدينية التركية، والبطريرك المسكوني برتلماوس الاول، والمدبّر البطريركي للارمن الاورثوذكس، والنائب البطريركي للسريان الكاثوليك ومتروبوليت السريان الاورثوذكس في اسطنبول وانقره.
ان دولة تركيا الاسلامية السنيّة (98%)، وعدد سكانها 79 مليوناً، تفصل تماماً بين الدين والدولة، وتحترم جميع الاديان، وتقرّ بالحرية الدينية، وتتبع النظام الديمقراطي. وهي معنيّة بحوار الحضارات والديانات، وتقدّر الحضور المسيحي فيها وفي بلدان الشرق الاوسط، كعنصر سلام واستقرار، وناقل للقيم الروحية والانسانية، وقيم الحداثة والترقي والديمقراطية والمساواة في العيش المشترك. ومن هذا المنظار وسواه، تستطيع تركيا ان تقدّم نموذجاً للربيع العربي المنشود.
6. يجتمع ابناء كنيستنا وبناتها، كهنة ورهباناً وراهبات ومؤمنين، من مختلف الرعايا والاديار، للاحتفال في مساء هذا اليوم برتبة الوصول الى المينا، بعد مسيرة الصوم الاربعيني، عبر الصلوات والاصوام واعمال المحبة والرحمة ورتب التوبة. وها نحن نبدأ غداً اسبوع الآلام المقدس الذي يبلغ بنا الى فصح المسيح الخلاصي، محتفلين بسرّ موته فداءً عن الجنس البشري، وقيامته من بين الاموات لتقديس جميع الناس، آملين ان يتحقق هذا الفصح في كل واحد منا، وهو فصح الموت عن الخطيئة بالتوبة وقيامة القلوب لحياة جديدة، مع كل ما يحمل من سلام فينا وحولنا. انه سرّ العبور الفصحي الى حياة النعمة والتجدد في حياتنا الشخصية والعائلية والاجتماعية، كما وفي حياتنا الكنسيّة والوطنية. وبذلك نكون نشيد شكر وتمجيد للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.