بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني

الفاتيكان، الإثنين 2  أبريل 2012 (ZENIT.org). -إن آباء الكنيسة عامةً والسريان خاصة أكدوا على المفهوم الخلاصي لعيش الصوم، لذلك شجعوا المؤمنين على الإلتزام به وعيشه الكلي، وصوّروه وكأنه عملية تحضير للمشاركة في العرس الخلاصي والذي فيه يُحتفل بانتصار وغلبة المسيح على الموت والخطيئة.في تعاليمهم وتأملاتهم يتوجهونالىكل مؤمن ويدعونه إلى حب الصوم، إلى تَبنّيه وعيشه لأنه يساعد على النقاوة والطهارة الكاملتين. من خلاله، تصبح الأفكار بسيطة غير معقدة. الصوم يطال الجسد والروح معاً، يلمس كل طاقاتهما، يُحْيها وينعشها، يُثمِر ثمارا نقية، حسنات عديدة على الجسد والروح معاً، يكلّلهما، يُجمّلهما كلٌّ بجماله وبرونقه الخاص، فتصبح الروح مشرقة أمام الملائكة والجسد باهراً نقيّاً أمام الناس.

الصوم هو المفتاح الذي يفتح كنوز الروح القدس؛ لأن من يصوم، تمجيداً لله، يمكنه أن يحصل على الإلهام الحقيقي، بل ويصل إلى الحقيقة الكاملة التي يبحث عنها والتي يحصل عليها بالإبتعاد عن الشهوات الحسيّة والأرضية. الصوم هو الدواء المناسب الذي يحمل الشفاء للجسد والنفس معاً، طعمه حلو؛ ولخفّة نيره، ينحلّ ثقل المرض. بالصوم تلتقي الروح بالجسد، فيولد التناغم بينهما، والجسد يُشفى ويشعر بالسلام، والروح تفرح، والأفكار تملؤها الآمالُ السماوية. الصوم هو الرجوع للذات لرؤيةٍ أفضل ولعملِ خيرٍ أشمل وأكمل؛ إنه المصباح الذي يضيء ذاتي الداخلية لكشف هفوات ناتجة ووليدة أفعال سيئة، فيسعى جاهدا لإبطالها. هذا المفهوم لا يمكن إدراكه ولا حتى استيعابه إلا ضمن العيش الجماعي والكنسي، فالكنيسة والجماعة تشكلان معا المكان الأنسب لعيش الصوم بمقوّماته ومفاعيله. في الكنيسة ومن خلالها يُثمر الصوم ويتفاعل مع كافة الفضائل المسيحية المساهمة في بناء وتطوير حياة المؤمن وتعميق صِلاتها بالمسيح رأسها، فصومنا مبني اساسا على فعل المحبة وعلى إتحادِ كاملِ افراد الجماعة الواحدة تحت راية حب المسيح، مما يساهم في نمو وتوطيد روح التعاضد والتوافق ما بين الجماعة الواحدة. هذا التوافق يساعد الأفراد على قبول ضعفهم وضعف الآخر، مما يُظهر الصوم كعنصرِ غفران وتواضع. إنّ الصومَ له دورٌ فعال في جعل جسدنا "أليفاً" لعمل الروح القدس فيه مما يساهم في إرتقاء روح الإنسان وترفعها الى الخدر الملائكي. هذا الإرتقاء بالروح الى العُلى يدفع المؤمن من تلقاء ذاته الى "ترويض" حواسه والسيطرة على كل عملٍ فكري او حسي مخالف لهوية وعمل الروح القدس الحال فيه؛ يُبرهن عن ذلك مار اسحق الإنطاكي في عظته عن الصوم الأربعيني بقوله، "...فعندما يصوم الفم عن الطعام، فليصم معه اللسان كي لا يبالغ في الكلام والثرثرة ، ولتصم العيون كي لا تغدق في النظر الى الرغبات الدنيوية، والدموع كي لا تحجب النظر عن الأمور الخيّرة ... ولتُصَمِّ الأذنُ عن سماع الأفكار الرديئة التي تشوّش الفكر، ولتَصُمِ الايدي مع كافة أعضاء الجسد كي تصبح معاً مؤهلة للقداسة ...".

لا يمكن  للمسيحي أن يعيش الصوم دون مواكبة الصلاة وعمل الخير في كافة حالاته الفكرية والعملية، فالصلاة وعمل الرحمة هما ركيزتَي الصوم والجناحين اللذين يدعمان مسيرته. الصلاة، الصوم وعمل الرحمة ثلاث عوامل تُشكل جسما واحدا مترابطا، لا يتجزء ولا ينفصل: فالصلاة هي روح الصوم، وعمل الرحمة هو حياته، لذلك من يصوم، يصلي في الوقت عينه، اي أنه يخلق رابط حميمي مع ربه ليستمد منه نعمة الجهاد لإستيعاب الصوم، ونتيجة صلاته هي عمل الرحمة مع الآخر، أي الرابط الأخوي لتفعيل حياة الله في حياة الآخر من خلال الصوم التي يُتَرجِم مدى عمق وترابط وتفاعل الله مع الإنسان.

في النهاية، كل ما يقال ويُختبر في الصوم يجب أن يظهر جلياً ليس فقط على مُحَيَّ كل منّا، بل أن ينبع من عمق الخبرة الروحية والقناعة الذاتية بحضور الله في صميم حياتنا ووجداننا، وإمحائنا الكلّي فيه، فكرا، قولا وفعلا. من دون الإستناد الى حقيقة أعمق، أي الولوج الى اعماق الذات الداخلية بواسطة الصوم، لا يمكننا ان نبلغ الى ذروة معرفة الحقيقة الخفية – الكاملة، وغاية الله من دعوته لنا.

من اراد منا ان يُجسّدَ صورة الثالوث في حياته، عليه أن يعيش حالة القداسة أولاً، بصمتها وصخب كلمة الحياة، بجهدها وصعوبة مسيرة الصليب، بصومها وحلاوة الالام. فالثمرةُ المنتظَرَةُ من جناء ومشقة الصوم تبقى في جمال المجازفة في عيشه وتبنيه، خاصة عندما يَتَّخِذ اتجاهاً عاموديا، ففيه الفشل الحتمي ثمنه الفرح الأبدي، إذ بالصوم يدخل الصائم في حضرة الثالوث فيضع ذاته في رهبة الصدق الإلهي.