بقلم أشرف ناجح إبراهيم
روما، الجمعة 21 سبتمبر 2012 (ZENIT.org). – إِنَّ زيارةَ البابا بندكتس الـ16 إلى العالمِ العربيِّ بواسطةِ زيارته للبنان الحبيبِ وتسليمه “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” لكنائس الشَّرقِ الأوسطِ لهو حدثٌ تاريخيٌّ مُكتَّظٌ بالمعاني الغنيَّةِ، ويُعبِّر عن حبِّ قداسته لهذه المنطقةِ واهتمامه بها. ولكنني أرغب أكثرَ في توجيهِ أنظارِ الجميعِ إلي “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” (الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسطِ) وفي دعوةِ الجميعِ إلى التَّفكيرِ والتَّأملِ في محتواه[1]، كما يطالبنا البابا بندكتس الـ16 ذاته بذلك[2]. فدعونا نتوقَّف، ولو بطريقةٍ مُوجزةٍ، عند بعضِ النِّقاطِ البارزةِ الَّتي ظهرت في هذا “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” وفي أحاديثِ البابا بندكتس الـ16 وكلماته أثناء زيارته الرَّسوليَّةِ للبنان.
إِنَّ عنوانَ الإِرشادِ الرَّسوليِّ لهو عنوانٌ مُعبِّرٌ جدًا عن حقيقةِ كنيسةِ المسيحِ، فهي الكنيسةُ الواحدةُ المُقدَّسةُ الجامعةُ الرَّسوليَّةُ، الَّتي أرادها الكلمةُ المُتَّجسِّدة إمتدادًا له ولتجسده في تاريخِ البشريَّةِ؛ فعنوانُ الإِرشادِ الرَّسوليِّ: “الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسطِ”! أجل، فكنيسةُ المسيحِ هي واحدةٌ مهما تعددت أماكنها ولغاتها وثقافاتها، وبالرغم مما تراه عيوننا وتتسبَّب فيه أفعالنا من انقساماتٍ ونزاعاتٍ؛ فما يجمعنا بالحقيقةِ هو أكثرُ بكثيرٍ مما يُفرِّقنا. ولذلك حذَّر البابا بندكتس الـ16 في يومِ “توقيعِ الإِرشادِ الرَّسوليِّ ما بعد السِّينودسِ” ( يوم 14 سبتمبر 2012 بازيليك مار بولس – حريصا) المسيحيين جميعًا، ككنيسةٍ واحدةٍ، مِن “تجربةِ إغفالِ أو نسيانِ الصَّليبِ المجيدِ”، وذكَّرهم بـ”لغةِ الصَّليبِ المجيدِ” وبـ”جنونِ الصَّليبِ”[3]. وقد توجَّه قداسته بكلماتِ الشُّكرِ والتَّشجيعِ والبركةِ إلى كنائسِ الشَّرقِ الأوسطِ جمعاء، وبالأخصِ الكنائس الكاثوليكيَّة ذات الحقِّ الخاصِ:
«يا كنائسَ الشّرقِ الأوسط، لا تَخفْنَ، لأنَّ الرَّبَّ حقّاً معكُنّ حتّى إنتهاء العالم! لا تَخفْنَ، لأنَّ الكنيسةَ الجامعةَ ترافقكُنّ بقُربها منكِ إنسانيِّاً وروحيِّاً! بمشاعرِ الرجاءِ والتّشجيع هذه بأن تكونوا مبادرين فعّالين للإيمان عبر الشّركة والشّهادة، سأسلّم يوم الأحد الإرشاد الرسولي لأخوتي الموقَّرين البطاركة، ورؤساء الأساقفة والأساقفة، ولجميع الكهنة، والشمامسة، والمكرَّسين والمكرَّسات، وللإكليريكيِّين، وللمؤمنين العلمانيِّين. “فتَشَجَّعوا” (يو ١٦، ٣٣)! بشفاعة العذراء مريم، أمِّ الله، أَستدعي وبعاطفة كبيرة فيضاً من النعم الإلهيِّة عليكم جميعاً! ليمنح اللهُ كلَّ شعوبِ الشّرق الأوسط أن يحيوا في السّلام والأُخُوَّة والحُرِّيِّة الدّينيِّة! ليباركَكُم اللهُ جميعاً!»[4].
إِنَّ كلمتى “الشَّركةِ” و”الشَّهادةِ” كانتا شعارَ الجمعيَّةِ الخاصةِ لسينودسِ الأساقفةِ مِن أجلِ الشَّرقِ الأوسطِ، وهما بعينهما محورُ الإِرشادِ الرَّسوليِّ ذاته. فيتحدَّث قداسةُ البابا بندكتس الـ16 عن مفهومِ الشَّركةِ ومصدرها الإلهي وأهميتها في داخلِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ في الشَّرقِ الأوسطِ ذاتها، ثُمَّ يتطرَّق إلى أهميتها في الحوارِ المسكونيِّ والحوارِ بين الأديانِ (راجع البند 3)؛ ويؤكِّد كثيرًا على أهميَّةِ الشَّركةِ مِن أجلِ الشِّهادةِ (راجع البند 4). وفي كثيرٍ مِن المقاطعِ يربط قداسةُ البابا بين الشِّهادةِ والشَّركةِ (راجع البنود 3، 4، 37، 66-67): «فلا توجد شهادةٌ بدون شركةٍ: إِنَّ الشِّهادةَ الوحيدةَ والحقيقيَّةَ هي حياةُ الشَّركةِ» (راجع بند 37).
والبابا اللاهوتيُّ يشير أيضًا إلى “الأعمدةِ الأربعةِ” الَّتي ارتكزت عليها الشَّركةُ والشِّهادةُ وسط جماعةِ المؤمنين الأولى حتى تهتم بهم جماعةُ المؤمنين المعاصريين أيضًا: “تعاليمِ الرُّسلِ” (إعلانِ كلمةِ اللهِ)، و”الشَّركةِ الأخويَّةِ” (خدمةِ المحبَّةِ)، و”كسرِ الخبزِ” (الإفخارستيا وجميعِ الأسرارِ)، و”الصَّلاةِ” (الفرديَّةِ والجماعيَّةِ) (راجع بند 5).
[1] سأذكر هنا فقط مرجعَ “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” (الكنيسةُ في الشَّرقِ الأوسطِ)، وهو الموقعُ الرَّسميُّ للفاتيكان؛ وكُلُّ مرةٍ سأذكر فيها مقطعًا مِن “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” سأكتفي فقط بذكرِ رقمِ البندِ في الوثيقةِ.
[2] «بعد التّوقيع على الإرشاد الرسوليّ الكنيسة في الشرق الأوسط، يُسعدُني أن أُسلّمه لجميعِ الكنائس الخاصة من خلالكم، يا أصحاب الغبطة وإيّها الأساقفة الشرقيين واللاتين في الشرق الأوسط. بتسليم هذه الوثيقة، والبدء في دراستها وتطبيقها من قبل جميع العاملين في الكنيسة، رعاةً وأشخاصاً مكرّسين وعلمانيين، ليجد كلُّ فرد فرحة جديدة للاستمرار في رسالته، مرتكزا على الشجاعة والقوّة اللتين سيحصل عليهما، ليبدأ في تطبيق رسالة الشركة والشهادة المُنبَثِقة، بحسب مختلف الأبعاد الإنسانيِّة والعقائديِّة والكنسيِّة والروحيِّة والرعويِّة، من هذا الإرشاد».
[3] «إنَّه الآن تحديداً حيث يجب الاحتفال بانتصار ا
لمحبّة على الكراهيِّة، والمغفرة على الانتقام، والخدمة على التّسلط، والتّواضع على التّكَبر، والوحدة على الانقسام. على ضوء عيد اليوم [عيد الصّليب المجيد] وبغرض تطبيق مثمر للإرشاد، أدعوكم جميعا ألا تخافوا، وأن تقيموا في الحقيقة وأن تُفعّلّوا طهارة الإيمان. إن هذه هي لغة الصّليب المجيد! هذا هو جنون الصّليب: هو أن نعرف أن نحوّل آلامنا إلى صرخة محبّة تجاه الله، وصرخة رحمة تجاه القريب؛ هو أن نعرف أيضاً كيف نُبدِّل أشخاصاً مهاجَمين ومجروحين في إيمانِهم وفي هُويّتِهم، إلى آنِيَةٍ مِنْ خَزَفٍمستعدّة للامتلاء من العطايا الإلهيِّة الوافرة والنفيسة كالذّهب (راجع: ٢ كو ٤، ٧-١٨). إنَّ الأمر لا يتعلَّق بمجرّد لغة بلاغيِّة، ولكنَّه نداء ملحّ للقيام بأعمالٍ ملموسة تنعكس دائما وقبل كلّ شيء في المسيح، بأعمالٍ تُساعد مختلف الكنائس لتعكس كمرآة بهاءَ جماعة المؤمنين الأولى».
[4] http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2012/september/documents/hf_ben-xvi_spe_20120914_firma-es-ap_ar.html