تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 27 سبتمبر 2012

الصلاة الليتورجية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما، الخميس 27 سبتمبر 2012 (ZENIT.org) –  ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في صالة بولس السادس في الفاتيكان نهار الأربعاء 26 سبتمبر 2012، والتي تكلم خلالها عن الليتورجية.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

قطعنا في هذه الأشهر الأخيرة شوطًا كبيرًا على ضوء كلمة الله لنتعلم أن نصلي بطريقة أكثر واقعية متأملين بعض الشخصيات الكبرى من العهد القديم، والمزامير، ورسائل القديس بولس، وسفر الرؤيا ، ولكن بالأخص متأملين التجربة الفريدة من نوعها والأساسية ليسوع في علاقته مع الآب السماوي. في الواقع، لم يتمكن الإنسان من أن يتحد بالله بعمق وحميمية كابن مع أبيه الذي يحبه إلا من خلال المسيح؛ يمكننا فقط من خلاله أن نتوجه حقيقة الى الله وندعوه بحنان “أبا! أيها الآب!”. وعلى غرار الرسل، نحن أيضًا رددنا خلال هذه الأسابيع ونردد اليوم أيضًا ليسوع: “يا رب، علمنا أن نصلي” (لوقا 11؛ 1).

بالإضافة الى ذلك، ولكي نتعلم أن نعيش هذه العلاقة الشخصية مع الله بشكل مكثف، تعلمنا أن نستدعي الروح القدس، وهو العطية الأولى التي أعطاها القائم من الموت الى المؤمنين، لأنه هو الذي “يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب” (رومة 8، 26) هذا ما يقوله القديس بولس، ونحن نعلم كم هو محق.

من هنا، وبعد سلسلة طويلة من التعاليم حول الصلاة في الكتاب المقدس، يمكننا أن نتساءل: كيف يمكنني أن أصقل بالروح القدس لكي أصبح قادرًا على الدخول الى عالم الله، والصلاة معه؟ ما هي تلك المدرسة حيث يعلمني الصلاة ويأتي لنجدتي عندما لا أعلم كيف أتوجه الى الله بطريقة صحيحة؟ لقد رأينا المدرسة الأولى للصلاة، في هذه الأسابيع الأخيرة، وهي كلمة الله، أي الكتاب المقدس. إن الكتاب المقدس هو حوار مستمر بين الله والإنسان، حوار تدريجي حيث يظهر الله قريبًا أكثر فأكثر، حيث يمكننا دائمًا أن نتعرف بشكل أفضل الى وجهه، وصوته، ومن هو؛ ويتعلم الإنسان قبول التعرف الى الله، والتكلم مع الله. طوال هذه الأسابيع، ومن خلال قراءة الكتاب المقدس، سعينا من خلال الحوار المستمر، لأن نتعلم كيف ننشىء اتصالا مع الله.

هناك “مساحة” أخرى قيمة، “مصدر” آخر قيم لأن نكبر في الصلاة، ينبوع ماء حي يتصل صلة وثيقة بالمصادر الأخرى. أتحدث هنا عن الليتورجية، وهي مكان متميز يتكلم فيه الله مع كل واحد منا، هنا والآن، وينتظر ردّنا.

ما هي الليتورجية؟ إذا فتحنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، والذي يشكل دائمًا مساعدة قيمة، ويمكنني أن أقول أيضًا أساسية، يمكننا أن نقرأ أن أصل كلمة “ليتورجية” يعني “خدمة من الشعب وإليه” (n.1069). إذا اقترض اللاهوت المسيحي هذا المصطلح من العالم اليوناني، فقد فعل ذلك بشكل واضح وهو يفكر بشعب الله الجديد الذي خلقه المسيح عندما مد يديه على الصليب ليوحد الناس في سلام الله الأوحد. “خدمة للشعب”، وهو شعب لم يتواجد بنفسه، بل من خلال السر الفصحي ليسوع المسيح. في الواقع، لا يخلق شعب الله من علاقات بالدم، أو بالأرض، أو بالأمة، ولكنه يخلق دائما من عمل ابن الله والشراكة مع الآب الذي حصلنا عليه.

ينص أيضًا التعليم المسيحي بأن “في التقليد المسيحي (كلمة “ليتورجية”)  تعني بأن شعب الله يشارك في “عمل الله”، لأن شعب الله بذاته لا يتواجد إلا بفعل الله.

هذا ما ذكرنا به أيضًا المجمع الفاتيكاني الثاني عندما بدأ عمله، منذ خمسين عامًا، من خلال المناقشة حول قواعد الليتورجية المقدسة، ومن ثم الموافقة الرسمية في 4 ديسمبر 1963، على أول نص من المجمع. كان من الممكن أن يعتبر البعض أن المستند عن الليتورجية وهو الثمرة الأولى للمجمع كشيء عشوائي. من بين عدة مشاريع، يبدو أن النص عن الليتورجية هو الأقل إثارة للجدل، ولهذا السبب على وجه التحديد، يظهر وكأنه يشكل نوعًا من الممارسة لتعلّم منهجية العمل المجمعي.

ولكن من دون أدنى شك، الذي يمكن أن يظهر كشيء عشوائي للوهلة الأولى، تبين أنه الخيار الأنسب، في تسلسل مواضيع الكنيسة وأهم واجباتها. بداية، في الواقع، سلط المجمع الضوء على سيادة الله وأولويته المطلقة من خلال مصطلح “الليتورجية”. الله قبل كل شيء: هذا هو بالتحديد ما يفسر لنا الخيار المجمعي للإنطلاق من الليتورجية. حيث يغفل النظر عن الله، يفقد كل شيء آخر توجهه. إن المعيار الأساسي لليتورجية هو توجهها نحو الله، لكيما عندئذ تستطيع أن تشارك في عمله.

ولكن بإمكاننا أن نتساءل: ما هو عمل الله الذي نحن مدعوون للمشاركة فيه؟ الإجابة التي تعطينا إياها وثيقة المجمع عن الليتورجية على ما يبدو مزدوجة. تشير الفقرة الخامسة في الواقع، الى أن عمل الله هو عبارة عن أفعاله التاريخية التي تجلب لنا الخلاص والتي بلغت ذروتها في موت يسوع وقيامته؛ ولكن في الفقرة السابعة تعرف الوثيقة بالضبط الإحتفال بالليتورجية “كعمل المسيح.” في الحقيقة إن هذين المعنيين لا ينفصلان.

إذا تساءلنا من يخلص العالم والإنسان، فالإجابة الوحيدة هي: يسوع الناصري، المسيح الرب، المصلوب والقائم من الموت. وكيف يظهر لنا اليوم، ولي، سر موت المسيح وقيامته هذا السر الذي يحقق الخلاص؟ فالإجابة هي: في عمل المسيح في الكنيسة، والليتورجية، وبخاصة في سر الإفخارستيا، حيث تحضر التضحية التي قام بها ابن الله الذي خلصنا؛ كما أيضًا في سر التوبة حيث ننتقل من موت الخطيئة الى الحياة الجديدة؛ وأيضًا في الأسرار الأخرى التي تقدسنا (cf. Presbyterorum ordinis, 5). وهكذا، فإن السر الفصحي لموت
المسيح وقيامته هو مركز اللاهوت الليتورجي للمجمع.

قلنتقدم أكثر ونطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن يصبح سر المسيح الفصحي هذا ممكنًا؟ كتب الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني بعد مرور 25 عامًا على وثيقة “الليتورجية المقدسة” Sacrosanctum Concilium: “ليجعل المسيح سره الفصحي فاعلا، هو دومًا هنا، حاضر من أجل كنيسته، بالأخص في الأفعال الليتورجية (27). ففي الواقع، الليتورجية هي “المكان” المميز حيث يلتقي المسيحيون بالله وبالذي أرسله، أي يسوع المسيح (راجع يوحنا 17، 3) (Vicesimus quintus annus, n. 7). نقرأ في السطر نفسه من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “إن الإحتفال بالأسرار هو لقاء بين أبناء الله وأبيهم، في المسيح والروح القدس، ويكون هذا اللقاء عبارة عن حوار، من خلال الأفعال والأقوال” (n. 1153). لذلك فإن الشرط الأول لاحتفال ليتورجي جيد هو الصلاة، والتحدث مع الله، والإصغاء اليه وإجابته. عندما يتحدث القديس بنوا في “قاعدته”، حول صلاة المزامير، يقول للرهبان: mens concordet voci أي “فليكن العقل على اتفاق مع الصوت.”

يعلم القديس أنه في المزامير، يجب على الكلمات أن تسبق تفكيرنا. هذا لا يحصل عادة، علينا أولا أن نفكر، ويتحول تفكيرنا الى كلام. هنا على العكس، في الليتورجية، الكلمة تسبق. الله أعطانا الكلمة، والليتورجية أعطتنا الكلمات: علينا أن نتوغل في داخل الكلمات، ومعانيها، وقبولها في داخلنا، وأن نلتئم معها؛ هكذا نصبح أبناء لله مماثلين له. وكما تشير وثيقة الليتورجية المقدسة لضمان الفعالية الكاملة للاحتفال: “على المؤمنين أن يتوجهوا الى الاحتفال الليتورجي، بروح مستقيمة، ويجعلوها متناغمة مع صوتهم، وليتشاركوا مع النعمة التي سيحصلون عليها كي لا يحصلوا عليها عبثًا”  (n. 11). إن العنصر الأساسي الأول للحوار مع الله في الاحتفال الليتورجي هو الإنسجام ما بين ما تقوله سفاهنا وما نحمله في قلبنا. مع دخولنا الى كلمات التاريخ الكبير للصلاة، نصبح منسجمين مع روح هذه الكلمات، قادرين على التحدث مع الله.

في هذا الصدد، أود أن أتوقف عند لحظة معينة خلال الإحتفال الليتورجي تساعدنا  وتدعونا الى ايجاد هذا الإنسجام، وعلى التكيف مع ما نسمعه، نقوله ونفعله. أنا أشير بذلك الى الدعوة التي يقولها المحتفل: “Sursum corda” أي لنرفع قلوبنا خارجين من فوضى اهتماماتنا، ورغباتنا، ومخاوفنا، وانشغالاتنا. على قلبنا أي خصوصيتنا أن ينفتح بطاعة الى كلمة الله ويجتمع في صلاة الكنيسة ليلقى توجهه نحو الله من خلال الكلمات التي يقولها أو يصغي اليها. يجب أن تتوجه عيون قلبنا نحو الرب الذي هو بيننا: هذا هو الأمر الأساسي.

عندما نعيش الليتورجية بهذا الشكل، فيتحرر قلبنا من قوة الجابية الى الأسفل ويرقى داخليًّا نحو العلا، نحو الحقيقة، نحو المحبة، نحو الله. كما يذكرنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: “يبقى عمل المسيح والروح القدس، الذي يعلن ويفعّل، وينقل سر الخلاص في الإحتفال الليتورجي المقدس للكنيسة، حيًّا في قلب المصلي. الآباء الروحيون يقارنون في بعض الأحيان القلب الى مذبح” (n. 2655): altare Dei est cor nostrum.

أصدقائي الأعزاء، لا نستطيع أن نحتفل بالليتورجية ولا أن نعيشها إلا إذا بقينا في وضعية صلاة، وليس إن كنا نريد القيام بشيء ما”، أن نجعل أنفسنا ظاهرين، ولكن إن وجهنا قلبنا نحو الله، وإذا بقينا في وضعية صلاة متحدين بسر المسيح وحوار الابن مع أبيه. الله بنفسه يعلمنا أن نصلي، هذا ما يؤكده القديس بولس (راجع رومة 8، 26). لقد أعطانا هو الكلمات اللازمة لنتوجه نحوه، كلمات نجدها في سفر المزامير، في صلوات القداس والاحتفال الإفخارستي. فلنصل لله لكي يجعلنا كل يوم أكثر وعيًا على أن الليتورجية هي عمل الله والإنسان، صلاة تنبثق من الروح القدس ومن أنفسنا، متجهين بالكامل نحو الآب، باتحاد مع ابن الله الذي جعل نفسه إنسانًا (cf. Catéchisme de l’Eglise catholique, n. 2564) شكرًا.

***

نقلته من الفرنسية الى العربية نانسي لحود – وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير