حاوره روبير شعيب
حلب، الجمعة 28 سبتمبر 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي القسم الثالث من المقابلة مع سيادة المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم، متروبوليت حلب لطائفة السريان الأرثوذكس. من الممكن مراجعة القسم الثاني من المقابلة على هذا الرابط.
* * *
حذّر البابا الشبيبة عن تحاشي تجربة ” عسل الهجرة المرّ “. وسيادتك، خلال ” تمنياتك الثلاث ” الشجاعة، أشرت إلى أنّ الهجرة التي لم تكن تخطر في البال في الأشهر الماضية باتت الآن حديثاً يوميّاً، فقد ” عادت نغمة السويد وهولندا وأميركا وكندا وأي بلد يساعد على الهجرة تتكرّر على أفواه المسيحيّين “. وقد دعوتَ إلى عدم الاكتفاء بشجب واستنكار الهجرة، بل إلى القيام بعمل ملموس لدرئها. ماذا يستطيع المسيحيّون الآخرون أن يفعلوا للمسيحيّين السوريّين ؟
المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم: كان كلّ الحقّ مع قداسة البابا في حديثه إلى الشباب اللبناني بقوله : لا يجب على البطالة وعدم الاستقرار أن يدفعا بكم لتذوّق عسل الهجرة المرّ. لقد أخذ موضوع الهجرة في السينودس مساحةً كبيرة من الكلام والوقت، فكلّ الكنائس تخاف من تكرار سيناريو العراق، أي أن يخسر الشرق الأوسط لوناً مهمّاً من ألوانه الزاهية، فالمكوِّن المسيحي من أساس المكوِّنات في هذا الشرق قبل وبعد الإسلام، ولهذا أخذ موضوع الهجرة في السينودس مساحةً كبيرة من المداخلات والنقاشات، فكلّ الكنائس تخاف من تكرار سيناريو العراق، وبعض الدراسات تُشير إلى انّ عدد المسيحيّين اليوم في المنطقة العربيّة هو بين 12 و15 مليون نسمة غالبيتهم تعيش في مصر، ومن المتوقّع أن يهبط الرقم إلى 6 ملايين بحلول العام 2020. ربّما لم يُدرك مواطنو هذه المنطقة بأنّ مواجهات الهجرة المتوالية للمسيحيّين تركت نتائج سلبيّة في مجالات حضاريّة وثقافيّة بصورةٍ خاصّة، فإذا فقد هذا التنوع الديني ألقه ستزداد الخصومات بين أتباع المذاهب والأعراق في كلّ المنطقة.
البابا بندكتس في حديثه عن هجرة المسيحيّين إلى خارج المنطقة، كان يُشير إلى أنّ الهجرة كما سمّاها عسل مرّ، تشكّل نسفاً للتنوّع الثقافي في منطقةٍ هي مهبط الوحي والرسالات السماويّة. هنا ترعرعت اليهودية، ونشأت المسيحية، وظهر الإسلام، وعندما أشرتُ في تمنياتٍ ثلاث وجهتها إلى قداسة البابا في زيارته للبنان، إلى نغمة السويد وهولندا وأميركا وكندا وأي بلد آخر يساعد على الهجرة، كنت أرى أنّ سيناريو العراق يتكرّر، وهذا يعني أنّنا سنقضي على آمال مَن يريد أن يعيش في وطنٍ متنوّع.
أمّا ماذا يستطيع المسيحيون الآخرون أن يفعلوا للمسيحيين السوريّين فهذا موضوع آخر. قبل كلّ شيء يجب أن يكونوا عناصر قوية تضغط على حكوماتهم من أجل وقف إطلاق النّار بشكلٍ عاجل ليقف نزيف الدم الذي اصطبغت به أرض سورية في تاريخها المعاصر، ثم تقديم المساعدات الإنسانيّة على كلّ الجبهات، والمطالبة بإطلاق كل المأسورين والسجناء من كل الأطراف، والمشاركة في إعادة البناء خاصّةً المساكن والمدارس والمراكز الدينيّة والجوامع والكنائس، لأنّ بعضها يحتاج إلى مساعدات كبيرة لإعادة الحياة إليها، وأيضاً يستطيع المسيحيّون أن يكونوا صنّاعاً للسّلام فيُعدّوا من أجل حوارٍ متواصل، أوّلاً بين المسيحيّين أنفسهم وهم ينتمون إلى مذاهب متعدّدة، ثمّ بينهم وبين إخوتهم المواطنين المسلمين، إلى جانب تهيئة الأجواء لطاولة المفاوضات بين كل الأطراف المتناحرة داخل سورية وخارجها، لأنّ السمات التي تغنّت بها سورية لفترةٍ ليست قصيرة زمنيّاً كـ : الوحدة الوطنيّة، والعيش معاً، والإخاء الديني تزعزعت أركان هذه السمات في بعض المناطق، وانتشر القلق بين صفوف المسيحيين، لا بل هم اليوم في حالة خوف من المستقبل، ولهذا زادت موجات الهجرة أولا إلى مناطق آمنة في سورية، ثمّ إلى خارج سورية. وأخيراً يستطيع المسيحيّون الآخرون أن يؤثِّروا على الإعلام الغربي فينقي من الذاكرة كلّ الصفحات القاتمة التي أدّت إلى التباعد بين المسيحيّين والمسلمين بسبب أحداثٍ تاريخيّة أصبحت من الماضي.
” الربيع العربي ” هو فصل يشبه ” آذار الغدّار”. فمن ناحية نرى بوادر شمس الحريّة، ومن ناحية أخرى عواصف العنف. وقد تحدثت في مقالتك المذكورة عن الوضع في سورية الذي يكرّر ” سيناريو العراق بقوّة ” مولداً ” الخوف من المجهول ” لدى مختلف الطوائف المسيحيّة. من ناحيته، تحدّث بندكتس السّادس عشر في المؤتمر الصحفي الذي عقد على متن الطائرة التي أقلّته إلى لبنان بشكل إيجابي عن الربيع العربي، مشيراً إلى أنّه يعبِّر عن رغبة الشعوب ـ والشباب بشكلٍ خاص ـ بالحريّة والإزدهار. ماذا ينقص في الرّبيع العربي لكي يُظهر وجهه الصافي الجميل؟
المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم: لا أعرف مَن أطلق على هذه المرحلة مصطلح : الربيع العربي، ولست واثقاً من أنّ هذا الربيع هو عربيّ أو إسلاميّ، لأنّ الفكر الإسلامي يتجلّى بوضوح في كلّ مكان انتصرت فيه رايات هذا الربيع العربي : من تونس، إلى ليبيا، فاليمن، وأخيراً مصر. المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلاميّة في هذه البلدان وعدم الالتفات بصورة كافية إلى التنوع الديني والمذهبي، أو تنقية الدساتير من الفكر المتشدِّد والداعي إلى الأصولية، خاصّةً ما يجري اليوم على أرض الكنانة، كلّ ذلك يُشير إلى أنّ هذا الربيع العربي مازال شتاءً !! أو أقل ما يمكن
أن يُقال خريفاً عربيّاً، لأنّنا لا نرى في هذه المرحلة ما يُزيِّن هذا الربيع بالورود والأزهار والرياحين وغيرها من علامات الربيع، بل نلمس لمس اليد الفوضى، والفساد، والدمار، والعنف، والقمع، والتهجير القسري، والقتل، فكيف يمكن أن يتخيّل الإنسان صوراً مأساويّة قاتمة يُطلق عليها مصطلح الربيع العربي أو الإسلامي ؟ لقد جرت محاولات كثيرة مِن قِبَل جهاتٍ متعدِّدة استعداداً لاستقبال هذا الربيع العربي منها : وثيقة كايروس فلسطين، التي فسحت المجال للمسيحيّين الفلسطينيّين لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، والمناشدة لتحقيق سلام عادل، وهذه الوثيقة بالذّات دعت إلى أسلوب المقاومة القائم على المحبّة، ولكن هنا يُطرح سؤالٌ هام وهو، إذا خلت فلسطين من المسيحيّين كيف سيقاومون الاحتلال، ويناشدون من أجل سلام عادل، فالمهم هو الحضور المسيحي، ودوره الفعّال، ضمن ما يُسمّى بـ : الربيع العربي. كان من الطبيعي جدّاً أن يشير البابا بندكتس السادس عشر إلى هذا الربيع العربي، وعلى تأثيره على المكوّن المسيحي في الشرق، والبابا يرى في هذه المرحلة، البُعد الإيجابي الذي ليس حاضراً في الربيع العربي، ولكن قد يُولد بعض مخاضٍ عسير. إن توقعات قداسته هي أن ترى المنطقة مزيداً من الديمقراطيّة، ومساحات أكثر من الحريّة، ودرباً واسعاً للتعاون وبهويّةٍ جديدة، ودعوته إلى شبيبة مثقّفة ومتعلّمة تنادي بالمزيد من المشاركة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة هو مطلب حقّ، لأنّه دون هذه المشاركة لا يحصل تضامن حقيقي بين كلّ المواطنين. إن الذي ينقص في الربيع العربي هو الصدق في النيّات، لأنّ المسيحي في الشرق لا يُريد أن تتكرّر مأسٍ مرّت على المنطقة منذ العام /1860/، ومروراً بعام /1895/، ثمّ بنتائج ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأخيراً استخدام العنف والقتل في بعض البلدان مما أثّر على الحضور المسيحي، وأقصد هنا العراق بالذات، الذي عانى كثيراً وحصل فيه التهجير القسري للمكوِّن المسيحي الذي فقد أكثر من نصفه عدداً خلال سنواتٍ قليلة. فالصدق في النيّات يدفع إلى أفعالٍ متميزة، وأعمالٍ حسنة، ويؤكّد على أنّ حقّ المواطن محفوظٌ في دساتير الدول جميعاً دون الالتفات إلى الدين أو المذهب أو الانتماء أو الثقافة وغيرها من الأمور التي أصبحت بمثابة حواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان، يبقى سلاح حماية المواطن في وطنه المواطنة ! فهل نفسح بمساحات واسعة للمزيد من ثقافة المواطنة ؟