عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي افتتاح الأسبوع البيبلي ويوم التعليم المسيحي – بكركي، الأحد 3 تشرين الثاني 2013

“وأنتم مَن تقولون إني هو؟”

Share this Entry

1. سؤالٌ مطروحٌ دائماً على الكنيسة، وعلينا نحن أبناؤها وبناتها ومؤسساتها، لكي نتمكّن من أن نشهدَ للمسيح، ونكرزَ بإنجيله، ونُعلّمَ سرَّه. واليوم، بدايةُ السنة الطقسية وأحدُ تقديس البيعة، نُجدّدُ إيمانَنا بالكنيسة المقدّسة، والتزامَنا بأن نتقدّسَ فيها وبواسطتها. نُجدّدُ إيمانَنا بالمسيح – كلمةِ الله الذي أرسله الآبُ لخلاصنا، فصار بشراً، وأسّسَ الكنيسة جماعةَ المؤمنين، وجعلها جسدَه. أحبّها ونقّى أبناءها وبناتِها بكلمته، وقدّم ذاته من أجلها على الصليب. إنّه يقدّسها بنعمة أسراره، ويُحييها بالروح القدس، معطي الحياةَ الجديدة وساكبِ المحبّةَ الإلهيّة في القلوب. في سرّ المسيح ينجلي سرُّ الله، الواحدِ والثالوث، وسرُّ الكنيسة، وسرُّ الإنسان، ومعنى التاريخ. وهو سرٌّ في حركةِ اكتشافٍ دائم بالصلاةِ والتأمّلِ في كلام الله في الكتبِ المقدّسة وفي تقليدِ الكنيسة الحيّ وتعليمِها وخبرتها. ولذلك يبقى السؤالُ مطروحاً علينا كلّ يوم: “وأنتم، مَن تقولون إني هو؟”(متى16: 15).

2. يسعدُنا أن نُحيِّيكم جميعاً، وبخاصّة أعضاءُ الرابطة الكتابيّة في الشّرق الأوسط، ومنسّقَها الأب أيوب شهوان، الراهب اللّبناني الماروني. إنّنا نفتتح معهم أسبوعَ الكتاب المقدّس، المعروف بالأيام البيبليّة التاسعة، وعنوانُ برنامجها هذه المرّة: الإيمان في الكتاب المقدّس. تقيم “الرابطة الكتابيّة” هذه الأيام البيبليّة بمناسبة إختتام سنةِ الإيمان، الذي سيحتفل به قداسة البابا فرنسيس مع البطاركة ورؤساءِ الكنائس الشرقية الكاثوليك، في بازيليك القديس بطرس في روما، الأحد 24 تشرين الثاني الجاري، عيد المسيح الملك في الروزنامة الليتورجيّة اللاتينية.

يبدأ أسبوع الكتاب المقدس نهارَ غد الاثنين وينتهي يوم السبت المقبل. ويتميّز، هذه السنة، بأن المحاضرات لا تُلقى في كلّيات اللّاهوت في لبنان، كما كانت العادة، بل في مختلف المناطق اللبنانية، حسب البرنامج المفصّل والمعلن.

3. ويسعدُنا أن نقيم في هذا الأحد “يومَ التعليم المسيحي في الشّرق الأوسط”، الذي تدعو إليه وتنظّمه الهيئةُ الكاثوليكيّة للتعليم المسيحي في الشرق الاوسط واللّجنةُ الأسقفيّة للتعليم المسيحي، بشخص رئيسها سيادة المطران ميخائيل أبرص، المعاون البطريركي للروم الملكيّين الكاثوليك، ورئيسها السابق المطران فرنسيس البيسري، والمطران بولس دحدح النائب العام لللآتين في لبنان، وأمينِ اللجنة العام الأب كلود ندره، أمين السرّ العام للرهبانية اللبنانية المارونية. مع الاحتفال بهذا “اليوم”، يبدأ أسبوعُ التعليم المسيحي في المدارس،موضوعُه العام مأخوذٌ من كلمة أشعيا النبي: “ما أجملَ أقدامَ المبشرين بالسلام” (أش52: 7).

إنّنا نوجّه تحيّة شكر وتقدير للهيئة الكاثوليكيّة واللّجنة الأسقفيّة للتعليم المسيحي التي تحتفل للسنة التاسعة عشرة بيوم وأسبوع التعليم المسيحي في الرعايا والمدارس، في لبنان والشّرق الأوسط.

4. على سؤال يسوع: “وأنتم مَن تقولون إني هو؟”(متى 16: 15)، أجاب سمعانُ بطرس: “أنت هو المسيح ابنُ الله الحيّ”(متى16:16). إنّ إيمانه هذا أصبح إيمانَ الكنيسة ومصدرَ ثقافة المسيحيّين، المدعوّين ليطبعوا بقيَمها الروحية والأخلاقية والثقافية، جميع ثقافات الشعوب، مُقدِّرين ما فيها من حقٍّ وخيرٍ وجمال.

يومُ التعليم المسيحي وأسبوعُه يهدفان إلى واحدٍ: إلى إعلان البشارة بيسوع المسيح الذي “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد”(عب 13: 8). إنّها بشارةٌ نقبلُها، ونشهدُ لها بمَثَل الحياة والمبادرات، ونعلنُها بالكلمة والمواقف. يسوع المسيح هو رباط الوحدة الجوهريّة بين العهدَين القديم والجديد في الكتاب المقدس. وهو وحدةُ تصميم الله الخلاصي في التاريخ، على ما أكّد عن نفسه: “لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض الشريعة والأنبياء. إنّي ما جئتُ لأنقض بل لأكمّل” (متى5: 17). ولأنّ الكتبَ المقدسة كلَّها، في العهدَين، تتمحور حول “كلمة الله الذي صار بشراً (يو1: 14)، “أصبحَ العهدُ الجديد متضمَّنًا في القديم، والعهدُ القديم جليًّا في الجديد” (في الوحي الإلهي: كلمة الله، 16).

5. نقرأ في الإرشاد الرسولي: “الكنيسة في الشّرق الأوسط، شركة وشهادة”: “إنّ الحضور المسيحي في البلدان البيبليّة الشّرق أوسطيّةيتخطّى بكثير الانتماءَ السوسيولوجي، أو مجرّدَ نجاحٍ اقتصاديٍّ وثقافي، ليكونَ روحَ الحياة المسيحية وركيزتَها في هذا المشرق (فقرة 71). ما يعني أنّ المسيحيّة لا تقف موقف المتفرّجِ من الخارج على مجرى الأحداث والتاريخ، بل تقرأ الأحداثَ الجارية، من الداخل وبروح المسؤولية،في ضوء كلمة الله التي تُنير كلَّ جوانب حياة الإنسان والشعوب، فتكتشفَ دورَها ورسالتَها وتلتزم بهما؛ والمسيحيةُ تصنع التاريخ، وتشاركُ مع غيرها من بلداننا المشرقيّة في صنعه. وتدرك أن كلام الله هو لها في هذا المسعى الركنَ والقوّة، ولإيمانها المنعةَ، ولأرواح المؤمنين الغذاءَ، ولحياتهم الروحية المَعينَ الذي لا ينضب(رجاء جديد للبنان، 39).

6. المسيحيّون في لبنان مدعوّون لهذا الدور ولهذه الرسالة. لا يستطيعون، بل لا يحقّ لهم، أن يقفوا جانباً حيال الصراعِ السياسيّ – المذهبي القائمِ عندنا، والذي يُعطّلُ تأليفَ حكومةٍ جديدة
تكون على مستوى التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة التي تُنذر بأشدّ الأخطار. والمُعيب حقًّا بالكرامة الوطنية هو أنّ هذا التعطيل مرتبطٌ بانتظار ما ستؤول إليه أحداثُ الحرب في سوريا والصراعُ في بلداننا المشرقيّة؛ وبالرهان على أيٍّ من الفريقَين المتنازعَين سيفوز بالغلبة. لا يحقّ للمسيحيّين، بحكم دورهم التاريخيّ ورسالتهم البنّاءة، أن ينزلقوا في هذا الانتظار وهذا الرهان، أو أن يخضعوا لهما، بل عليهم أن يبادروا إلى إيجاد حلٍّ للنزاع السياسيّ – المذهبيّ المتفاقم، وإلى شقّ طريقٍ للتوافق على تأليفِ الحكومة، وإلى اقتراحِ قانونٍ جديدٍ للانتخابات النيابيّة، يكونُ عادلاً ومساويًا بين جميع مكوّنات بلادنا، وحافظًا للمواطن قيمة صوته المُحاسب والمُسائل، وإلى العملِ على إجراءِ الانتخابات في أسرعِ ما يمكن، وإعدادِ كلِّ ما يلزم لانتخابِ رئيسٍ جديد للجمهورية في موعده الدستوري. نحن لا نرضى، بحكم كرامتنا الوطنيّة، بأن يكون لبنانُ سلعةً بيد أحد في الداخل أو في الخارج، ولا رهينةً في أيدي المتنازعين، ولا فضلةَ أحد.

7. إنّ خيار المسيحيين، المستنير بكلام الله وبثقافة العيش معًا بثقةٍ واحترامٍ متبادلَين، هو الدولةُ المدنيةُ القادرة على حماية الأمن والاستقرار، وعلى توفير السلام والمساواة بين الجميع. وكم يؤلمُنا ويؤلم المواطنين المخلصين للبنان أن نرى تفشّي ذهنيةِ الإقطاعيات والمحسوبيّات والدويلات، ومنطقَ الاستقواء والأمنِ الخاص والأمن بالتراضي، وانتشارَ السلاح غير الشرعي، وتدنّي الأخلاق وإسقاط حرمةِ الدين واستباحةَ وصايا الله وشريعتِه. وبألم كبير نشاهد سقوط الضحايا البريئة التي تقع بنتيجة هذا الفلتان السياسي – المذهبي  الأمني والأخلاقي، وهي ضحايا من صفوف المواطنين والجيش اللبناني، حتى يوم أمس في طرابلس وبعلبك ومستيتا – بلاط في بلاد جبيل. يا رب، نسألك الرحمة لهم، ومسَّ ضمائرِ المسؤولين والمأجورين للكفّ عن هذا الشرّ بحقّ اللبنانيين ومؤسساتِ الدولة. وليعلم المسؤولون السياسيّون الذين يُعطّلون قيام المؤسّسات الدستوريّة أنّهم المسؤولون عن كلّ هذا الإجرام.

8. “ما أجمل أقدامَ المبشرين بالسلام” (اشعيا 52: 7).

السلامُ عطيّةٌ من الله لكلّ إنسانٍ وشعبٍ ووطن. ولأنّ السلام من الله فهو ممكنٌ وينبغي علينا أن نبنيَه لكي نستحقَ البنوّةَ لله: “طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعون”(متى5: 9). “المسيح سلامُنا” (أفسس2: 14)، وقوّتنا لصنع السلام وإحلاله على ركائزه الأربع: الحقيقةِ والعدالةِ والمحبةِ والحرية. فأي انتقاص منها أو من إحداها يزعزعُ السلام، ويولّد النزاع.

الحقيقة تولّد السلام الحقيقي، لأنّها تنفي الكذب والخيانةَ والازدواجيّة.

والعدالة تُثمر السلامَ العادل، لأنّها تحترم حقوقَ الآخرين وكرامتهم، وتلتزم بالواجب الشخصي في توفير الخير العام.

والمحبة تكوِّنُ السلام المحبّ، لأنّها مشاعرُ إنسانيّةٍ عميقة تسامحُ وتغفر وتتفهّم، وتنتزعُ من القلوب كلَّ بغضٍ وحقد، وأفكارِ سوء.

والحرية تؤدّي إلى السلامِ النابع من إرادةٍ حُرّةٍ ومسؤولة، تتّخذ خياراتِها في إطار الحقيقة والخير، وعلى صوت الضمير المستنير.

9. في أحد تقديس البيعة، نجدّدُ إيماننا بالكنيسة، المؤتمنة على عطيّة السلام. ونلتزم بالمحافظة عليه وببنائه بقوّة كلمة الله وعلى هديّ نورِها. فللرّسل والتلاميذ الأوّلين، نواة الكنيسة الناشئة ولنا اليوم، يردّدُ الربُّ يسوع: “السلامَ أستودعُكم. سلامي أعطيكم. لا كما يعطيه العالم أُعطيكم أنا. فلا تضطرب قلوبُكم ولا تجزع” (يو14: 27).

بهذا السلام في القلوب والعائلات والمجتمع والوطن، نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير