تكملة للجزء الخامس ب ... المزيد من الشروحات حول شجرة معرفة الخير والشرّ ...
يقول الأب روبير بندكتي/ من البديهيّ أن شجرة معرفة الخير والشرّ ، القائمةُ في وسط الجنّة بين سائر الأشجار، " "طيبّة للأكل ومتعة للعيون" ، " والطيبة المأكل " ، لا علاقة لها بعالم النباتْ ، بل يقتصرُ وجودها على الرمز إلى " الإختيار " . فالإنسان تلقّى أمرًا واضحًا: " من جميع أشجار الجنة تأكل ، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها ، فإنك يوم تأكل منها تموت موتا " . وإنطلاقا من هذه النقطة، نرى الأجواءَ مهيّاةلإبتداء المأساة. لكن الراوي لا يُدلي بأيّ تفسير لوجود الشرّ ومصدره ، بل يأخذ علمًا بوجوده كأمر واقع. جعل الله الإنسان في الجنّة ، ولكن الحيّة فيها مجسّدة رمزيّة الشرّ كلها .. وليستْ الحيّة إلاهة الشرّ، وليست هي مبدأ شرير أصليّ يوضعُ كندّ لله، وكأمر شخصيّ مقابل الله، كما كانت تقول به التيارات المانوية: بإن هناك مبدأين ، مبدأ إله خير ، ومبدأ إله شرّ .. هذا الأمر مرفوضٌ قطّ ولا يمكنُ الأخذ به ، ومحالٌ. الحيّة ، خليقةٌ من الخلائق.. السؤال هو كيف تغلغلَ الشرّ في الخليقة التي صنعها الله ؟ لا جواب ، يقول الأب روبير، عن هذا السؤال، لأن الشرّ حقيقة غبشاءٌ يصطدم بها الإنسان دون أن يكشفَ سرّها. سيجابهها الرجل والمرأة في الجنّة في شكلها الفتّان وستشعر المرأة ، بعد أن أغوتها الحيّة ، بإن الشجرة المحرّمة " طيبّة للأكل ومتعة للعيون ومنيّة للتعقّل".
لكن ، وراءَ هذا الشكل الفتّان يستتر وجه آخر مخيف، وهو الموت وما يرافقه من مشقّات. الدخول في المأساة، لا يعود سببه إلى وعي فرديّ محبوس في عزلته. فالراوي يعرض أمامَ عيوننا قصّة زوجين، فيها الرجل لم يبلغ الوعيَ الذاتي إلاّ بتبادل صلت بالمرأة. فالمأساةُ الروحيّة التي تتمّ فصولها في هذه الدنيا تتضمّن ناحية إجتماعيّة تلفت الإنتباه، ولكنّها ، وإن استوعبت تبادلَ الوعيَين، تُمثّل على صعيد آخر، على صعيد المجابهة بين الزوجين، " الرجل – المرأة والله نفسهُ .
فالله ، يمثّل في آن واحد ، الشريعة بالتحريم الذي أصدرهُ (2 : 17) والوعد بالسعادة ضمن إطار الفردوس الذي جعل فيه الإنسان . ولن يبلغ الرجل والمرأةُ وعيهما التامّ لأنفسهما معًا إلاّ بصلتهما بالله ، وذلك بإلزام حريّتهما في إختيار حاسم. أرادَ الراوي الرائع، أن يبيّن بوضوح أنّ الإنفصال عن الله يُدخل بُعدًا مأساويّا في حياة الزوجين نفسيهما، فوضع ، بين مشهد خلق العالم ومشهد التجربة، آية تشيرُ إلى البراءة السائدة في الفردوس من خلال كلامه عن العري غير المُخجِلْ.
إنّ معنى هذا التركيب التصويريّ ، شفّاف. ولا شكّ أنّ الكاتبَ يُظهر فيه دقّة نفسيّة مدهشة. فبعدَ أن وضع الرجل والمرأة في حالة إمتحان تجاه وصيّة الله ، وجدا أمامهما مغويا. يوحي إختيار الحيّة لتمثيل هذا الدور بعدة رموز نجدها في الأساطير الشرقيّة. نذكر منها خاصّة، في ملحمة كلكامش، أنّ حيّة خطفتْ من البطل "نبات الحياة" . وهذا العرض المصوّر لا ينزعُ عن حقيقة الشرّ المأساويّة في العالم كلّ غموضها. وفي المشهد التالي ، تغوي الحيّة المرأة أولا، لإنّ الأنوثة تمثّل وجه الكائن البشريّ الضعيف (ككلّ كائن بشريّ ! ) . وبدلا من أن تكون للرجل " عونا يناسبه " ، تخضعُ نفسها للإغواء بدورها لتستدرجَ قراره بالقبول، لإنّ الرجولة تمثّل وجه الكائن البشريّ الصامد الملتزم (ككلّ وجه بشريّ ! ). وبعد مخالفة الشريعة ، إنفتحت أعينهما ، لكنهما أكتشفا عُريهما المؤسف بدلا من " المعرفة " المتوخّاة ، فأصبحَ الخجل الجنسيّ علامة الوعي المعطونْ.
قد تكونُ هذه الكلمات السابقة، خروجًا ، بعض الشيء ، من الموضوع الأساسيّ " قصّة آدم وحوّاء "! ... لكنها مهمّة لمعرفة شموليّة القصّة والرواية كاملة.
يتبع