قصّة آدم وحواء .. بين الرمزية والواقعيّة

الحلقة الثانية

Share this Entry

رأينا في الحلقة الأولى ، كيف أننا لا نقدرُ أن نضعَ آدم وحوّاء في مكان وزمان معيّنين من تاريخنا، كأسماءَ علم ..! بل هما يمثّلان كلّ إنسان، وحالتهما هي حالة واقعية حقيقيّة، تمسّ صميم ووجدان أيّ إنسان الآن في هذا العالم. وكيفَ أن كاتب نصوص الرواية هذه: رواية آدم وحوّاء (الراوية الأقدم) التي هي من التقليد اليهويّ ، بينما الرواية الأحدث ، رواية الخلق والأيام الستّة ، التي هي من التقليد الكهنوتيّ .. إنه كاتبٌ وشاعرٌ وفنان عبقريٌّ، قدِرَ أن يضعَ الخبرة العميقة والصراعات الداخليّة التي تحدث في أعماق حياة الإنسان وعلاقاته مع الله ومع الآخرين ، في قالب رائع رمزيّ قريب من الأسطورة ، لكنها نصوصٌ إيمانيّة حقيقيّة وليست بأساطير، لإن الأساطير في الشرق القديم، وآلهتها خاصّة ؛ يخافونَ على امتيازاتهم وهم المسيطرونَ والبشر عبيدٌ لها ، عكس إله العهد القديم ، الإله الحقيقيّ الذي أعطى الحريّة كــ ” نعمة ” للإنسان ، وأنه (أي الإنسان ) داخل في علاقةٍ حميميّة مع الله الحيّ الخالق، وهدفه إعطاء الإنسان المقدرة على بناء ذاته بقوّة الروح  (فالخلق هو علاقة مستديمة).. بينما هذا الأمر لا نجده في أساطير بابل والآداب المجاورة …! لهذا ، نقّح وصفّى الكاتب اليهويّ ، النصوص الكتابيّة من هذه الصور ومن الأصنام الكثيرة التي يمكنُ أن نجدها في الأساطير المجاورة … فكانت الشمس مثلا تُعبد ، كإلهٍ ، بينما الكاتب في الراوية الكهنوتيّة ، يجعلها مخلوقة من الله ، تخدمُ الإنسان وتعطيه الحياة ، فهي إذن، ليست بخالقة ولا بإلهٍ .. وهذه ثورة كبيرة من الكاتب لهدمْ كلّ صنميّة وقبول الله كعلاقةٍ حيّة بالإنسان .. ولا يمكنُ تأليه أيّ أمر أو أيّ مصدر ، خارجًا عن الله ، فالله الحقيقي، هو وحده الإله الحقّ المعبود . وسنرى ما هي التجربة والخطيئة الأصليّة (أو الجدية ) للإنسان الأوّل وكيفَ جُرّبَ.

قبلَ كلّ شيء، أودّ أن أعطي بعضًا المعلومات المهمّة حول ، كيفيّة كتابة هذه النصوص الكتابيّة ، رواية السقوط  وكيفَ نقلها الكاتب اليهويّ . فمن غير المنطقيّ والمعقول ، أنّ الكاتب عاصرَ وعايشَ ما جرى ، ونقلَ حرفيّا وكأنهُ مصوّر وإعلاميّ وصحفيّ ، فإنه لم يكنْ حاضرًا وقتَ التجربة وسقوط الإنسان ، وكلّ هذه الحوادث المرويّة في سفر التكوين : فمثلا ، كيف عرفَ أن الحيّة جاءت إلى حواء لإغواءها وتجربتها ؟ أو ، كيفَ كانَ آدمَ نائمًا في سباتٍ عميق، وجاءَ الله وأخذ من أحد أضلاعهِ وصنع المرأةَ ..؟ . وكيفَ أيضا، وصفَ الشجرتين المذكورتين في الجنّة، علمًا أن كاتب السفر ، لم يكنْ موجودًا إلا في سفر الخروج (كما هو معلومٌ إنه موسى النبيّ ).. !؟

كلّ هذه النصوص، كُتبتْ على ضوء خبرة العبور من أرض العبوديّة إلى أرض الميعاد، وخبرة التجربة في البريّة ، والصراعات والتذمّرات تجاه الله إله الشعب. إذن نحنُ هنا، في روايات التجربة والسقوط في سفر التكوين، لسنا في صدد عالم تلقّيناه من البشر الأولين، وإنما كما ذكرنا سابقا، بصدد فكر حكماء اسرائيل، إنطلاقا من خبراتهم الإنسانيّة والدينيّة. وللتعبير عن قناعاتهم بشكل روايات رمزيّة، استخدم هؤلاء الحكماء ، صورًا أسطوريّة من الشرق القديم وحاولوا تكييفها مع إيمانهم بالإله الواحد. لنأخذ مثلا بسيطا:

الخلقة

أتراحسيس (الحكيم الأكبر) هو بطل أسطورة بابليّة دوّنتْ في حوالي عام 1650 ق . م ، ولكنّها ترقى إلى بداية الألف الثاني . فالإله الأكبر آنكي قرّر أن يخلقَ كائنات تقوم بالعمل عوضًا عن الآلهة (حمل سلّة السخرة) . فالبشر مجبولونَ من الطين، ولكن أيضا، من لحم ودم إله ساقط إسمهُ ” وي “؟

لكن ، الكتاب المقدّس بالرغم من استعارته بعض الصور الأسطوريّة ، يُفهمنا أننا بإزاء صور لا غير. إنه ينزع عنها الطابَع الأسطوريّ. فالإنسان بحسب تكوين 2، خُلق مجانّا، وليس تلبية لحاجات الله: والعمل هو عطيّة مرتبطةٌ بالجنّة وليس ” سُخرة ” في خدمة الله. والإنسان ، المصنوع من تراب الأرض ومن نفخة الله ، هو خليقة مختلفة، وليس كائنا مزيجًا إنبثقَ من إله ساقط، لقد خُلق حرّا وليسَ هو تحت نير القدر أو هوى الآلهة ، كما تقول هذه الأساطير ، وهذا هو الاختلاف الكبير.هذا مثالٌ صغير وبسيط جدا لتبيان الاختلاف بين الأسطورة والنصوص الكتابيّة ، على ضوء الوحي.

في الإصحاح الثاني من سفر التكوين الآية 8 ، و 15 – 17 التي تبدأ بـــ ” قصّة الفردوس “

” وغرسَ الربّ الإله جنّة في عدن شرقا …… ” . لفهم هذه القصّة على وجهها الصحيح، يجب أن نعرفَ أنّ الكتاب المقدّس لا يتكلّم على أعمال الله المليئة بالأسرار ، بالمفاهيم العقليّة بقدر ما يتكلّم  عليها بالصور. وهذه الصور هي مستقاةٌ من المحيط البشريّ، الذي كان سائدًا في العصر الذي دوّنت فيه الأسفار المقدّسة (كما قلنا)، وجزئيّا من أساطير ذلكَ الزمان. فالله إنّما يخاطبنا في لغة بشريّة، يستطيعُ أن يفهمها أولئكَ الناس مع تصوّراتهم. وبما أننا هنا بإزاء لغة ترتكزُ على الصور، يجب عدم اعتبارها نوعا من تحقيق تاريخيّ حول بدايات تاريخ البشريّة. كما يجبُ ألا تُضافَ إلى تلك الصور تخيّلات وهميّة – بالمقارنة مع الأساطير التي تبقى متحفّظة – فيُصوّر الفردوس كأنه بلاد النعيم الخرافيّة. ومن ناحية ثانية لا يجوز نبذ هذه اللغة المليئة بالصور والملوّنة بالأساطير بحجّة أنها لا تعني لنا اليوم شيئا ، كما لا يجوزُ تفسيرها تفسيرًا روحيّا ورمزيّا بحتا ينفي عنها أيّ علاقةٍ بالواقع التاريخيّ، فنحنُ هنا ، أمام روايات عن ا
لأصل التاريخيّ للشرّ والسوء في العالم (أي إنها روايات تفسيريّة توضّح سبب الأشياء) .

يقول الأب فرنسوا فاريون اليسوعيّ ، بخصوص موضوعنا هذا : ” ما يوحى به أوّلا في الكتاب المقدّس ليسَ هو الإله الخالق ، بل الإله المحرّر. وما هو في قلب الكتاب المقدّس هو الخروج من مصر، أي سرّ تحرير اسرائيل. وما هو في قلب إيماننا المسيحيّ هو بلوغنا حرية الله نفسها (…) ، في الكتاب المقدس لا نسمع الله يقول أولا للشعب العبرانيّ : أنا خلقتكَ  ، بل ولا شكّ : أنا حرّرتكَ ، أنا أخرجتكَ من عبوديّة مصرَ . ولم يطرح اليهود السؤال عن الخلق على أنفسهم إلا في وقت متأخر جدّا.

لهذا ، يجب قراءة الكتاب المقدّس ، لا إنطلاقا من أوله ، بل إنطلاقا من الإختبار الذي كانَ في نشأة الكتاب والذي هو ” إختبار شعب إسرائيل ” . ويضيف أيضا فرنسوا : الإختبار ، والحقيقيّ ، والملموس، والواقعيّ بخلاف التصوّري، والمجرّد.. القيام بإختبار تفّاحة مثلا ، هو أكلها لا وصفها بالكلمات. يمكنني أن أصفَ بكلمات طعمَ ثمرة من الثمار، لكن الناس يقولون لي في آخر الأمر: كُلها.

ويعطي مثالا آخرًا ، الأب فرنسوا اليسوعيّ ويقول: ” كم بالأحرى ، إن كانَ الكلام عن خلق الإنسان والعالم عن يد الله . ليس عندنا أولا اختبار ” الأصل “.. الأب غانْ ، بما امتاز به من الشعور بالكلمات الأوّلية (لأنه على يقين ثابتْ من أنّ ما يراهُ الإنسان بأقلّ وضوح هو ما كان أوليّا ، والأب غانْ على حقّ).. إن الولد الفرنسيّ الذي على صدر إمّه لا يتساءل أولا هل هو وريث فيرسانجيتويكس والغاليين، بل ما يطلبهُ هو التخلّص من مغَص معدتهِ، فتبدو له أمّه أولا ، لا تلك التي ولدته ، بل تلك التي تخلّصه الآن من ألمه وجوعه. ولا يتساءل عن أصله ونهايته إلا بعدَ أن يكونَ قد تقدّم في السنّ ورجع في الزمن بالنسبة إلى ثديّ أمّه وأصبحَ بالغا.

هذا شأن بني إسرائيل ، فإنهم لم يبدأوا بذكر آدم. فإنّ الشعور الملموس والواقعيّ والحيّ لا ينطلقُ أبدًا من الأصل ، بل يرجع إليه إنطلاقا ممّا يعيشه في واقع حاضره.

هذه الملاحظات ، التي قد تبدو عادية وبسيطة، تعبّر عن حقيقة في منتهى البساطة، لكننا ننساها أحيانا. فتشوّه بالتالي كلّ التعليم المسيحيّ تشويهًا جذريّا. لم ينطلق إيمان اسرائيلَ من العقيدة إلى الحياة ، بل من الحياة إلى العقيدة، وأمّا الإختبار الأوّلي الذي قام به إسرائيل، والذي نسمّيه الإختبار المؤسس، فهو التحرير من عبوديّة مصرَ. وأن هذا التحرير – الخروج من مصر – الذي تمّ في القرن 13 ق .م ، قد سبقَ بــ 5 قرون على الأقلّ ، الروايةَ الثانية لخلق العالم (تكوين 2 , 3 ) وهي الأقدم ومن الراجع أن عهدها يرقى إلى القرن 8 ، وسبق ، بـ 7 قرون ، الرواية الأولى (تكوين 1) وهي الأحدث ويرقى عهدها إلى القرن 6.

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير