تساؤلات
في هذا الجزء الثالث من موضوعنا ، سنتطرّق إلى بعضا من التساؤلات وبعض منالتوضيحات المهمّة بخصوص الموضوع هذا، كي لا تبقى أي حيرة أمام المؤمنين.
كيف كان في إمكان الكاتب أن يعلم بما جرى عند خلق العالم؟
كيف التوفيق بين معلوماته والعلم الذي يقول بإن آدم وحوّاء لم يوجدا قطّ، لإن الإنسان ظهرَ بوسيلة الأرتقاء والنشوء ؟
كيف الإيمان بتلك ” الأيام الستّة ” ؟
ما هي ” الخطيئة الأصليّة ” : هل تعني أنّ آدم وحواء إتحدا ” جنسيّا “؟ ولماذا علينا أن نتحمّل نتائجَ خطإهما؟
ما معنى جميع تلكَ الصور : الحيّة وشجرتي المعرفة والحياة؟
مع ذلكَ ، نرى أن تلكَ الروايات هي أجوبة !
وهذه ملاحظة بسيطة تدلّنا على طريقة التفسير. يشرحُ لنا أهل الإختصاص أنّ تأليف تلك الفصول تمّ على مرحلتين: في القرن العاشر ، ثمّ في القرن السادس قبلَ المسيح. أي أنّ إبراهيمَ مات قبل أن يكتب المؤلف الأول بثمانية قرون ونصف ، وأن معظم الأنبياء عاشوا وبلغوا رسالتهم قبل أن يقدمُ المؤلف الثاني على كتابتها…
في الواقع، أخذ شعب اسرائيل يدوّن تاريخه في القرن 10 ، بعد أن مضى بعض الزمن على إقامته في أرض كنعان. وقد استهلّه بإبراهيم ، غير أنه لم يلبثْ أن طرح على نفسه السؤال التالي: هذا تاريخ شعبي ، ولكن كيف بدأ تاريخ الشعوب وسائر الإنسانيّة؟ غير أن كاتب تلك الروايات مثلنا، لا يعرف شيئا عن كلّ ذلك. والأمر الوحيد الذي يثق به هو أنّ الله أمينٌ ولم تختلف معاملته للبشريّة عن معاملته لذلك القسم من البشر الذي يؤلّف شعبه الخاصّ. لقد إنطلقَ الكاتب إبتداءً من تاريخه فاستخلص أهمّ سُنَن الله في عمله وأضاءَ بها ” نشأة العالم ” في رؤية رائعة.
وحاول بذلكَ أن يُجيبَ عن الأسئلة التي كان الإنسان يطرحها عمّا يتعلق بالوجود البشريّ: ” لماذا الحياة؟ ولماذا تلكَ الحياة مطبوعة على الشرّ والألم والموت؟ لماذا ذلك التجاذب الجنسيّ الخفيّ؟ … ” والاجوبة الناجمة عن كلامه الغنيّ بالصور لا تزالُ باقية إلى اليوم، لإن الله قد أوحى بها فأصبحتْ نورًا لنا نحن أيضا.
إنّ مجرّد فكرة ” خلق ” العالم ، تُزعجنا ،لإنها تجعلنا نتصوّر أنّ الله انطلق من تصميم كان قد وضعهُ وأراد أن يعرضه علينا في تلك الفصول. ولم يبقَ علينا بعد ذلك إلاّ أن ننفّذه. يبدو لنا هذا الإله الخالق القدير أنه السيّد الذي يخضع له كلّ ما في الكونْ، فلا قدرة لنا على مخالفة مشيئته، ونحنُ رهنُ إشارته لا نتمتّع بأيّة حريّة.
هذا الانطباع يعود هنا أيضا إلى أننا ننظرُ إلى الأمور من زاوية مخالفة. فشعب اسرائيل لم يقرأ تلكَ الروايات كــ “قانون” يُعَدّ إطارًا فرضه الله إعتباطا ، بل كإكتشاف حقّقه على ممرّ التاريخ ، وهو شعور الإنسان بإنه محبوبٌ ومحب معًا، يلزمه بنمط معيّن من الوجود. ولم يتوصّل إلى مفهوم الخلقْ هذا ، إلا بعدَ أن قامَ بإختبار التحرّر – الخلاص –الانفصال …!
يقترحُ علينا الأب فرنسوا فاريون ، أن نبدأ بقراءة الكتاب المقدّس بنصوص اشعيا الثاني ، أي كاتب الفصول 40 إلى 56 من سفر إشعياء، وهو نبيّ من القرن 6 ، سنرى كيف أنّ ” الواقع ” الدينيّ الذي يعيشهُ اسرائيل في ذلك الزمن هو صلة بإله ليس هو خالق الطبيعة وعلّة العالم الأوّل ، بل هو محبة محرّرة.
لكن الخروج من مصرَ ليس هو البداية، ماذا جرى قبل موسى؟ سبق أن قلنا أن الشعور الواقعيّ لا ينطلقُ أبدًا من الأصل، بل يرجع إليه. في حوالي السنة 2000 ، قام إبراهيم ايضا بإختبار تحريريّ. ففي ضوء الخروج من مصر، فسّر اليهود هجرة عشيرة ابراهيم كدليل على حضور الله. وها نحنُ أمام عهد قطعه الله مع إبراهيم. وبعد قراءة إشعيا الثاني وسفر الخروج، لا بدّ من قراءة سيرة إبراهيم في سفر التكوين. وقبلَ إبراهيم؟ في نظر اليهود ، هذا زمن ما قبل التاريخ. فهل سيتوقّفونَ عند هذا الحدّ؟ لا ، إنهم يؤمنونَ بإنّ إلههم هو الإله الحق الوحيد (سائر الآلهة هي أوثان) . إذا كان إله اسرائيلَ الإله الحقّ الوحيد، فليس هو إله اليهود فقط، بل إله البشريّة كلّها. فالإله الذي قطعَ عهدًا مع إبراهيم وموسى قطع عهدًا مع البشريّة كلّها . هذا ما ورد في دورة نوح، حيث يستخدمُ الكتّاب أساطير قديمة للتعبير عن شموليّة العهد، وقبلَ نوح؟ آدم، أي الإنسان والبشريّة كلّها (وهو معنى كلمة آدم).
وأخيرًا ، وليس آخرًا … يضيف أيضا الأب فاريون : هل يمكنكم أن تتكلّموا عن ميلادكم فتقولوا ، من دون أن تسألوا عنه شاهدًا لا يزالُ حيّا: هكذا جرت الأمور ؟ لا شكّ أنّ ميلادكمْ كان حدثا ، ولكنه لم يكن حدثا لوعيكم. وكذلكَ لا نستطيعُ أن ندركَ بداية التاريخ. إن إدراك بداية العالم أمرٌ مستحيلٌ على الإطلاق ، لإنه من غير المعقول أن يكونَ لدينا أيّة شهادة لشخص يشعر بانه كان بداية البشريّة . لنْ يُكتَب أبدًا الفصل الأوّل من تاريخ البشريّة ، على الصعيد التاريخيّ بالمعنى الدقيق طبعًا. فليس هناك أيّ أدراك ممكن غير التفكير القائم على الاختبار الحاليّ.