هذه الرواية تعود إلى القرن العاشر قبل المسيح. فهي إذن أقدمُ من الأولى ، رواية خلق العالم والأيام الستّة. إلا أنها ليست من كاتب واحد، فهي بدورها تجمع تقليدين مختلفينْ. تقليدًا أول يتكلم عن خلق الإنسان (2 : 4 – 8) وخلق المرأة (2 : 18 – 24) ، وتقليدًا ثانيا يدور حول حوادث الخطيئة الأولى. فيصف أولا الإطار الذي ستجري فيه تلك الحوادث ، أي الجنّة وما فيها من أشجار ولا سيّما شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشرّ. ثم يتكلم عن وصيّة الله بالإمتناع عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ . ثم يتابعُ هذا التقليد روايته في الفصل الثالث فيروي قصّة التجربّة وعصيان آدم وحواء أوامر الله (3 : 1 – 24).
الله الخالق:
يبدو لنا في هذه الرواية ، الإله الوحيد الذي خلقَ وحده كلّ شيء، الإنسان والجنة والحيوانات والمرأة. وتتميّز صورة الله في هذه الرواية بأنها تنسبُ إلى الله أعمالا إنسانيّة ، فتصفهُ وهو يغرس الجنّة ويجبل ترابا ليصنع الإنسان ، ثمّ يأخذ ضلعًا من أضلاعه ليصنع المرأة، ويسدّ مكانها بلحم. وفي الفصل الثالث نراه ” يتمشّى في الجنّة عند نسيم النهار ” ، ويصنع لآدم وحواء بعد الخطيئة ” أقمصة من جلد ليكسوهما ” . تظهر هذه الرواية قرب الله من الإنسان وعطفهِ عليه ، إلا أنها لا تقلّص شيئا من قدراته، فهو وحده الخالق ، وهو الذي يعطي الإنسان وصاياه.
إنّ الإسم الإلهيّ المزدوج ” الربّ الإله ” الذي تبتدأ به هذه الرواية ” يوم صنع الربّ الإله …” ، الذي يكادُ يكونُ غير مستعمل خارجًا عن هذا النصّ ، إلا في وقت لاحق، يطرحُ على أهل الاختصاص مشكلة، لم يوجد لها حلّ حتى الآن. فهل كان في متناول المؤرّخ تقليدان إستعمل أحدهما منذ البدء إسم يَهوه (في 4 : 1 – 3 ، توجد عبادة يهوه من القدم)، في حين أنّ الآخر أنتظرَ إلى أن دشّن أنوش بن شيتْ عبادة يهوه (4 : 26) ، في (4 : 25 يستعملُ الكاتب نفسه أيضا إسم إيلوهيم = الله ؟ هذا ما يدعونا إلى إقتفاء أثر ” تقليدين ” دمجهما المؤرّخ ” اليهويّ ” بمهارة فائقةٍ.
– في الواقع ، لدينا في الفصل الثاني رواية عن خلق العالم، نسمّيها الرواية الأولى ، يمكننا بسهولةٍ أن نفردها، فيكونُ التابعُ في الفصل الرابع، ولكنْ هناك حادثة إنتقاليّة، بقيت منها مقاطع صغيرة في الفصل الثالث.
– وبالعكس ، عندنا في الفصل الثالث مأساة محنة وخطيئة ، نسمّيها الرواية الثانية ، نجدُ لها تمهيدًا في بعض آيات الفصل الثاني.
ولعلّ في ذلك ما يبرّر بعض التكرارات (المآزر في 3 : 7 ) والأقمصة في (3 : 21) . لكننا نصطدم ببعض الصعوبات، ولا سيّما فيما يتعلّقُ بشجرة الحياة (2 : 9 ، 3 : 22 – 23) ، في حين أنّ النصّ النهائيّ الذي حرّره المؤرّخ اليهويّ، المتأثّر كثيرًا بالرواية الثانية (محنة وزلّة) ، لم يحافظ حتمًا على جميع عناصر الرواية الأولى (خلق العالم) ، فلا نجدُ بدّ من الفطنة في نسبة هذه الآية أو تلكَ إلى الرواية الأولى أو إلى الرواية الثانية.
خلق الإنسان:
تصفُ هذه الروايةُ خلق الإنسان بطريقةٍ بدائيّة. فالله يجبل ترابا وينفخ فيه. ويجب هنا أن نستبعد كلّ تصور صبيانيّ ساذج، وكأن الله يأتي ويمسكُ بيديه ترابا وينفح فيه الروح ويتكوّن الإنسان وإنتهى الأمر ! … من البديهيّ أنّ الله روحٌ وليس له جسدٌ ولا يدان ليجبلَ التراب. لقد استخدمَ الكاتب صورة معروفة في عصره ليعطيَ من خلالها تعليمًا دينيّا. فالأساطير المصريّة القديمة كانت، تصوّر الإله الكبش يكوّن الملك على آلة الخزّاف، فمن خلال تلك الصورة يؤكّد الكاتب أن الإنسان هو من صنع الله في جسده وروحه. لكن هذا لا يكفي ، لنرى أكثر الموضوع ..
ما هو الإنسان أمام الله؟ إنه بكيانهِ مصنوعٌ من تراب الأرض ، فلا عجبَ أن يصوّر ، في رواية الزلّة ، كمَن كُتبَ عليه أن يعود إلى التراب. فالإنسان ” آدم ” مجبولٌ من التراب (أدمه): وهذا الجناس يشرحُ لنا تأصّله الجسديّ في الأرض – العالم الماديّ. لكنّه لا يصبحُ ” نفسا حيّا ” أي شخصًا حيّا قادرًا على الإتصال بالله ، إلا بنسمة الحياة التي ينفخها الله فيه. بل هذا ما يميّز الإنسان عن الحيوان. أي ، أن الخلق والنفخَ في الإنسان، ليس أعطاءه روحًا ونفسًا خارجيّة منفصلة عنه أبدًا، بل النفخة هنا هي ” حياة الجسد ” .. أي المصالحة مع الذات ، معرفة الذات، معرفة النبع الأصليّ للإنسان والدخول الحقيقي الكامل في ” العلاقة – مع – الله ” التي هي حقيقة الخلقْ. وهذا سنجده ، كما ذكرنا سابقا ، في خبرة العبور – التحرير – الخلاص ، للوصول إلى أرض الميعاد – الفردوس … إنها خلق للإنسان … إذن : الخلاص = الخلقْ. وإن أردنا أن نعملَ مقارنة صغيرة توضّح بعض الأمور الجوهرية أليكم هذا الشرح:
خلقَ الله إسرائيل كشعب ، في مصر وفي البريّة ، ثمّ أدخلهُ إلى أرض كنعان، الخصيبة ، وأعطاه الوصايا ليعيش بموجبها في هذه الأرض. فإن حفظها اسرائيل، عاشَ سعيدًا مطمئنّا. وأن خالفها ، أنقضّ عليه الشرّ والتصقتْ به اللعنةُ وطُردَ من تلك الأرض…. إذن هكذا تجري تمامًا قصّة خلق العالم والجنة والزلّة : خلقَ الإنسان في البريّة – أدخلَ الجنة الحسناء – تلقّى وصية لكنه خالفها – وطردَ من الجنة. ولا يخفى على القارئ اللبيبْ أن كلّ التوسّع القصصيّ الذي نجدهُ في تكوين 2 و 3 يشير إلى التفكير الذي بفضله توصّل اليهويّ إلى التعبير عن رسالته ، فمأساة الجنة المفقودة ، ليست أمرًا غريبًا عن حياتنا ، بل هي عرض تصويريّ لما نمارسهُ كلّ يوم.