سألنا في الحلقة الثالثة هذا السؤال: كيف التوفيقُ بين تحديد الله السابق والحريّة الإنسانيّة؟
حول هذه المسألة الصعبة ، جرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر، نقاشٌ دُعيَ
جدال النعمة ” بين لاهوتيّي الرهبانيّة الدومنيكيّة والرهبانيّة اليسوعيّة . وقد أبقى البابا المسألة مفتوحة، بيدَ أنّه منعَ تبادل الإتهام بالهرطقة . وكان هذا القرار حكيمًا. فالمسألةُ ، في الطريقة التي طُرحت هي بالنسبة إلينا سرّ مُبهَم . فلا يمكننا تحديدُ العلاقةَ بين حريّة الله وحريّة الإنسان بإن ننزعَ من الله ما يُعطى للإنسان ، أو بالعكس . فالله هو ، في حريّة محبّته ، على هذا القدر اللامتناهي من العظمةِ بحيث لا يُفسِح في المجال للحريّة الإنسانيّة المحدودة وحسب ، بل هو الذي يجعلها ممكنة ، ويسندها ، ويشجّعها ، ويحرّرها ، ويتمّمها . ثمّ إنّ هذه العلاقة بين ” الله والإنسان ” لم تُكشَف لنا وبوجهٍ نهائيّ إلاّ في يسوع المسيح . ومن ثمّ لا تتّضحُ مسألة التحديد السابق إلا إنطلاقا من يسوع المسيح . ولإنّ نقطة الإنطلاق هذه كانت ضئيلة جدا في الجدل التقليديّ الذي قامَ حول التحديد السابق ، تاهت هذه المسألة في طروحات عديمة الجدوى.
ماذا تعني عقيدة التحديد الإلهيّ السابق ، بحسب معناها الأصليّ ، هي تعني ثلاثة أمور :
1 – إنّ نقطة الإنطلاق في عقيدة (تحديد الله السابق ) ليست قرارًا مجرّدا من قبل الإرادة الإلهيّة ، ليست مبدأً عامّا ، بل هي ” الاختيار الواقعيّ في يسوع المسيح ” (أف 1 : 4 – 6 ) .
إن الله ، في يسوع المسيح ، هو فقط ” نعم ” ، وليس ” نعم ولا ” في الوقت عينه . ومن ثمّ فلا يقفُ الإختيار والرذلُ على نحو متواز الواحدُ جنبَ الآخر ، بل هناكَ بالحريّ فقط الإختيار للخلاص. لذلك ، لا نتكلمُ على التحديد السابق بشكل مجرّد وغير محدّد ، بل نتكلّم بشكل واقعيّ ومحدّد على التحديد السابق للخلاص. وهو يتمّ في يسوع المسيح . فإنّ إختيار الله قد حدّد ” أن نكونَ مشابهين صورة إبنه “(روم 8 : 29). وقد جعلهُ الله خطيئة من أجلنا ( 2 كور 5 :21 ) ؛ ومن ثمّ فالجميع ، والخطأة أيضا ، مدعوّون في المسيح إلى الخلاص.
2- إنّ أرادة الله الخلاصيّة في يسوع المسيح لا تتوجّه إلى أفراد منعزلين ، بل إلى شعب الله بمجمله ، وهي تتوجّه إلى الفرد من حيث إنه مندمج في جماعة شعب الله الكبرى ، وهو إنما يحصل على الخلاص لكونه عضوًا فيخا ( تث 7 : 7 – 8 ) . ومن ثمّ فإختيار الفرد هو دومًا ” إختيار لخدمة يقوم فيها بصفة كونه ممثّلا للآخرين . لذلك ليسَ الإختيار إمتيازًا يحظى بها الذين ” إحتكروا الخلاص ” بل هو أرسالٌ لخدمة خلاص الجميع .
عن السؤال هي الذين يخلصون قليلون ، يسوع كان صريحا أجابَ : إجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق ” لوقا 13 : 24 .. هذا النداء يصير في مهمّة الإرسال التي أوكلها القائم من بين الأموات دعوةً إلى الكرازة بالإنجيل للخليقة كلّها ( مر 16 : 15 ). فلا وجود ، من ثم ، لأيّ أسَر أو شعوب أو أعراق ، تتمتّع بتحديد سابق وإمتياز ، ولا وجودَ لاناس ٍ أسياد إلى جانب أناس من درجة ثانية.
3 – بالنسبة إلى الفرد ، التحديد السابق من قبل الله هو ” جوهر الإنجيل “. إذ يؤكّد أنّ الأمرَ في النهاية لا يتعلّق بإرادة الإنسان وجهده ، بل فقط برحمة الله ( روما 9 : 16 ) و ( أفسس 2 : 8 ). ومن ثمّ فيقينُ الإختيار هو أعظمُ سند وأقوى تعزية . بيد أنهُ ، في الوقت عينه ، يُزيل كلّ الضمانات الطبيعية ويُحيلنا إلى نعمة الله . ولإن لله هو الذي يفعل فينا الأرادة والعمل ، يجدر بنا أن نعمل لخلاصنا بخوف ورعدة .
” حيث لا يتجاوب الإنسان مع النعمة ِ ، يقعُ تحت الدينونة ، القول : إن المدعوّي كثيرون ، أمّا المختارونَ فقليلون (متى 22 : 14) يدلّ على أنّ الاختيار ليس إمتلاكا أكيدًا ، ولكنه بصفة كونهِ هبة ، هو أيضا مهمّة .إنه لا يُقصي مسؤولية الإنسان ” .
الحلقات إنتهت بقوة الربّ. سيكون هناكَ ملحقا أيضا أضافيا يخص موضوعنا وهو حول: التبرير والبرّ والجدل الكاثوليكيّ الأنجيليّ وسبب التصادمات والصراعات حول هذا الموضوع .