كلمة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي في إطلاق كتاب زيارة البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان- بكركي، الجمعة 15 تشرين الثاني 2013

فخامة الرئيس،

Share this Entry

   1. باسم إخواني أصحاب الغبطة والنيافة البطاركة والسّادة المطارنة والرؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، أعضاء مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وسيادة السفير البابوي وهذا الجمهور الكريم، يُسعدني أن أرحّب بكم، فخامة الرئيس، في احتفال إطلاق كتاب “الزيارة الرسولية إلى لبنان”، التي قام بها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، وشرّفتم هذا الإحتفال بوضعه تحت رعايتكم وبحضوركم الكريم. وهذا حقّ، لأنّ هذه الزيارة إلى لبنان قد أرادها قداسته لكلّ بلدان الشَّرق الأوسط من خلال لبنان، وشاء أن يميّزها بتوقيع الإرشاد الرسولي “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”، وبإعلانه في لبنان، وأن يصفها “برسالة السلام“. إنّها زيارة تشكّل حقّاً حدثاً تاريخيّاً فارقاً ميّز عهدكم الميمون في الرّئاسة الأولى.

    2. فالفضل يعود إليكم، فخامة الرئيس، بدعوة قداسة البابا بندكتوس لزيارة لبنان، بعد زيارتَين كريمتَين لكم قمتم بهما لقداسته في حاضرة الفاتيكان: الأولى في تشرين الثاني 2008 والثانية في شباط 2011. وقد تركتا في قلبه أثراً طيّباً، كما أشار في خطاب وصوله إلى لبنان على أرض مطار بيروت، وقال أنّ زيارته أرادها ردّاً لزيارتيكم.

   ثمّ وجّه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك هذا، الدعوة إلى قداسة البابا بندكتوس لزيارة الكنيسة في لبنان. فأراد قداسته هذه الزيارة تعبيراً عن تقديره للمساهمة التي قدّمها البطاركة والأساقفة والكهنة والرّهبان والرّاهبات والمؤمنون العلمانيّون في أعمال سينودس الأساقفة من أجل الشَّرق الأوسط في تشرين الأوّل 2011.

   3. فإحياءً لهذه الزيارة الرسولية التّاريخيّة المميّزة التي كانت في نيّة البابا بندكتوس خاتمة زياراته الرّسولية إلى بلدان العالم وكنائسه، وشاء، بدافع نبوي، أن يسكب من خلالها كلّ محبّته لهذا الشّرق وقد زار بعضاً من بلدانه، مثل تركيا وقبرس والأراضي المقدّسة، كما ابتغى أن يودع لبنان واللّبنانيين ما في قلبه من حبّ وآمال، بادرت اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام مشكورة، برئاسة سيادة أخينا المطران بولس مطر، رئيس أساقفة بيروت، مع المركز الكاثوليكي للإعلام، إلى نشر وقائع هذه الزيارة بكتاب موثّق بالخطابات والعظات والكلمات والصور، وفيه الكثير من الجمال والأناقة. هذا الكتاب يجمعنا اليوم لإطلاقه برعايتكم وحضوركم، فخامة الرئيس، بدعوة من اللّجنة الأسقفيّة المذكورة. ويُسعد الكُرسي البطريركي أن يستضيف هذا الإحتفال المهيب، أثناء انعقاد دورة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك.

   4. أجل أراد قداسة البابا بندكتوس أن “يودع لبنان واللّبنانيين ما في قلبه من حبّ وآمال”. فأكّد في مطلع كلمته، لحظة وصوله إلى مطار بيروت، أنّه يريد بزيارته “تبيان متانة العلاقات القائمة منذ القدم بين لبنان والكُرسي الرسولي، والرغبة في تعزيزها. وعاد في سياق كلامه ليؤكّد على “رسالة لبنان“، إذ قال: “أنّ من واجب التعايش السعيد في لبنان أن يُظهر لكلّ الشرق الأوسط، ولباقي العالم أنّه من المستطاع، في داخل أي أمّة، قيام تعاون بين مختلف الكنائس بروح الشركة الإخويّة بين المسيحيّين، وعيش مشترك بينهم وبين اخوانهم من الأديان الأخرى، قائم على حوار الحياة بالتعاون والاحترام المتبادل”.

   ثمّ عبّر البابا بندكتوس في كلمته هذه عن آماله بشأن لبنان، معتبراً أنّ التوازن القائم فيه يُقدّم كمثال في كلّ مكان، ولكنّه دقيق للغاية ومهدّد أحياناً بالإنكسار عندما يُشدّ مثل وَتَرِ القوس أو عندما يخضع لضغوط فئويّة أو ماديّة، غريبة عن ميزة اللّبنانيّين العفوية. فدعا إلى الإعتدال الحقيقي والحكمة الكبيرة، وإلى تغليب العقل على المشاعر الأحادية، من أجل تأمين الخير العام للجميع. وأنهى كلمته مذكّراً بالملك سليمان العظيم صديق حيرام ملك صور، الذي كان يقضي بالحكمة، وهي فضيلة سُميا كان يلتمسها من الله بإلحاح، فمنحه قلباً حكيماً وذكياً (1 ملوك3: 9-12).

   5. وأنتم فخامة الرئيس، في خطاب الاستقبال في القصر الجمهوري، حيث تمثّلت كلّ مكوّنات لبنان الدينيّة والمدنيّة، كشفتم أمام قداسة البابا بندكتوس “فلسفة الكيان اللبناني وقوامها العيش معاً بين المسيحيين والمسلمين في كنف الدولة، في إطار ديموقراطي، يضمن حرية الرأي، ويسمح بالتداول الدوري والسلمي للسلطة. ليس هذا العيش معاً معادلة جامدة، بل تكامل إنساني بنّاء، وتفاعل فكري وثقافي منتج، وإغناء متبادل، وانتماء. إنّه يستند إلى إرادة سياسيّة حرّة ومتجدّدة. ويُترجم على الصعيد العملي في مشاركة جميع الطوائف والمجموعات المكوّنة للمجتمع، في إدارة الشَّأن العام، بصورة متكافئة ومتوازنة، وصولاً إلى الدولة المدنية الضامنة لحقوق جميع المواطنين من دون تمايز أو تفاضل”.

   6. إنّ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، الملتئم حول موضوع “الشهادة في حياة الكنيسة ورسالتها في لبنان”، المُستمَدّ من الإرشاد الرسولي “الكنيسة في الشّرق الأوسط، شركة وشهادة”، يتناوله أيضاً من ناحية الشهادة التي أدّاها المسيحيّون في لبنان على المستوى الثقافي والإنمائي والسياسي والوطني، والتي على المسيحيّين اليوم أن يواصلوها. لقد كان الدَّور الأساسي لرجالات الفكر من بينهم في ابتكار فلسفة الكيان اللّبناني”، الذي يميّزه عن كلّ بلدان المنطقة، ولرجالات الدولة الدورُ في تجسيدها نظاماً سياسياً ظاهراً في الدستور.

   لكن آباء هذا المجلس لا يرضون بأن يصبح الكيان اللّبناني ومؤسساته الدستورية والعامة رهينة النزاع السياسي – المذهبي الداخلي والمتأثّر في العمق بالنزاع الجاري في بلدان المنطقة والآخذ في الاتّساع. ويرفضون تغيير الهوية اللبنانية التي هي أساس رسالة لبنان بحكم موقعه على الضفة الشرقيّة في المتوسّط، لخير المنطقة بأسرها. وما يؤلم الآباء بالأكثر، ويؤلم قلبكم فخامة الرئيس وكلّ القلوب المُحبّة والغنية بالمشاعر الإنسانية، هو أنّ مظاهرَ تغيير هوية الكيان اللبناني وتعطيل رسالة لبنان، لا تقف عند حدود الفكر بل تتعدّاه إلى انتهاك الثوابت الوطنيّة، وجعل الهوية والرسالة حرفاً ميتاً. وقد أدّت وتؤدّي أكثر فأكثر إلى إفقار الشعب اللّبناني الذي بات ثلثُه يعاني من الجوع، وإلى قهره في معيشته وأمنه ومصيره، وإلى إرغامه على هجرة الوطن، وجعلِ العديد من أبنائه أدواتٍ لحركاتٍ أصولية دخيلة ولأهداف حزبية، يحمّلونها السلاح ويدرّبونها على القتل والهدم والعنف والإرهاب، فضلاً عن تسبّب كلّ ذلك بتفشي الفساد في الإدارات العامّة ونهب المال العام، والانحطاط في الأخلاق، وبانتشار السلاح.

   فمن أجل التفاعل والتكامل والاغتناء المتبادل بين مكوّنات لبنان، نؤيّد مساعيكم، فخامة الرئيس، إلى إحياء الحوار الوطني وتحقيق المصالحة، ومن أجل وضع حدّ للإنشطار السياسي – المذهبي. ونطالب معكم المجلس النيابي بإقرار قانون جديد للانتخابات، من شأنه أن يحفظ المساواة وقيمة صوت الناخب، وأن يكون على قياس الوطن لا على قياس الأشخاص والفئات، وبإجراء الانتخابات النيابيّة في أسرع وقت ممكن.

   كما نطالب الأطراف السياسيّين المتنازعين بتسهيل تأليف الحكومة الجديدة الجامعة والقادرة على مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والمعيشيّة والأمنيّة، وعلى إعادة الحياة العامّة إلى دورتها الطبيعية، الضامنة للخير العام. ونؤيّد مساعي فخامتكم لإجراء انتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري. والكلّ، من أجل حماية تداول السلطة بالشكل الديموقراطي، الذي يميّز لبنان.

   فخامة الرئيس، أهلاً وسهلاً بكم، وشكراً جزيلاً على رعاية هذا الاحتفال وعلى تشريفكم لنا بحضوره.

عشتم! وعاش لبنان!


Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير