الراعي: "زمن الميلاد أو المجيء هو زمن العائلة المسيحيّة التي تستعيد هوّيتَها ورسالتَها من عائلتَي عين كارم والناصرة"

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – يوبيل 50 سنة لفرق السيدة في لبنان – بكركي، السبت 16 تشرين الثاني

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

“كان زكريا وزوجته اليصابات بارَّين أمام الله، فاستُجيبت صلاته”

                                                (لو1: 6)

1. حسنت في عينَي الله سيرةُ زكريا الكاهن وزوجتِه إليصابات، اللَّذين عاشا “بارَّين أمام الله، وسالكَين في جميع وصايا الربّ وأحكامِه بلا لوم”. فقبِلَ اللهُ صلاةَ زكريا الكاهن، وأنعم على الزوجَين المُسنَّين العاقرَين بولدٍ ذي امتيازٍ إلهي: هو يوحنّا السابق والمعمدان، آخِرُ أنبياءِ العهد القديم، وأوّلُ رسولٍ في العهد الجديد، المدعوّ لإعداد القلوب لاستقبال المخلّص. هو الذي قال عنه الربُّ يسوع: “لم يولد مثلُه في مواليد النساء” (لو7: 28). إسمه المختارُ من الله “يوحنّا” يعني حسب اللّفظة العبريّة “يهو حنان”: الله رحوم. فتجلّت في شخص يوحنّا رحمةُ الله اللّامتناهية لوالديه، وستتجلّى بميلاد ابن الله لتشمل البشريّةَ جمعاء بثمار الفداء والخلاص.

2. في هذا الحدث يتجلّى تصميمُ الله الخلاصي وتحقيقهُ بواسطة الإنسان والعائلة. اليوم في عائلة عين كارم، بلدةِ زكريّا واليصابات، وغداً فيعائلة الناصرة، بلدة يوسف ومريم. وعلى مدى التّاريخ، في كلّ عائلة تنفتح بالصلاة على عالم الله، الواحد والثالوث، وتعيش معه في شركة الإيمان والرجاء والمحبة. لذا أولَتِ الكنيسةُ اهتماماً خاصّاً براعوية الزواج والعائلة، وبتعزيز روحانيّة الحياة الزوجيّة والعائلية. وخصّتها بالكثير من تعليمها. فنشأت حركات ومنظّمات رسوليّة ساعدت العديد من الأزواج والعائلات في عيش حياةٍ مسيحيّة مميّزة، أعطت وجوهاً مشرقة في الكنيسة والمجتمع، وقدِّيسين وقدِّيسات “يتلألؤون كالشمس في ملكوت الآب” على ما يقول الربّ في الإنجيل (متى 13: 43).

3. من بين هذه الحركات والمنظّمات حركة فرق السيّدة، المعروفة أيضاً بأخويّة عائلات مريم. يُسعدنا في هذا المساء أن نحتفل مع هذه الفرق بيوبيلها الذهبي، يوبيل خمسين سنة على انطلاقتها في لبنان. وقد فاق عددُ فرقها الخمس والخمسين، وهي منتشرة في مناطق لبنانية مختلفة نذكر من بينها: بيروت، والمتن، وكسروان، والشمال، ودير الأحمر، وصيدا. في مناسبة هذا اليوبيل الذهبي تُجدّد الفرق الحاضرة مواعيدَ الزواج بصورة رسمية. هذه الحركة التي أسّسها المرحوم الأب هنري كافاريل تنتشر اليوم، والحمد لله والشكر لأمّنا مريم العذراء، في أكثر من 70 بلداً في العالم.

إنّنا نحيّي كلّ فرق السيّدة وأعمدتها وعمدتها، وبخاصّة مرشدها العام الأب Jacinto de Farias، ومرشدها الوطني الأب جان كلاكش، المُرسَل اللّبناني. ونهنّئهم باليوبيل وبثماره الروحيّة. ونقدّم معهم ذبيحة الشُّكر هذه لله على نعمة يوبيل الخمسين، وعلى الكثير من النِعم التي أفاضها عليهم وعلى الأزواج والوالدين والأولاد، ففاض الخير منها في مجتمعنا وكنيستنا ووطننا. ونرفعها ذبيحة تشفّع بالموتى الأحبّاء الذين سلّمونا وديعة “فرق السيدة” وسبقونا إلى بيت الآب. ونذكر أيضاً مرضانا والمتألّمين الذين يواصلون في بيوتنا آلام المسيح الخلاصيّة. ونقدّمها ثالثاً ذبيحة استلهام لأنوار الروح القدس من أجل انطلاقة متجدّدة لفرق السيدة، في زمنٍ باتت العائلة عندنا بأمسِّ الحاجة إلى روحانيّة وخدمة ورجاء، وسط ما يحيط بها من مصاعب ومحن، وما يصيبها من اعتداءات على مستوى الكرامة والقدسية والأخلاقية.

4. زمن الميلاد أو المجيء الذي نبدأه غداً، أحد البشارة لزكريا، هو زمن العائلة المسيحيّة التي تستعيد هوّيتَها ورسالتَها من عائلتَي عين كارم والناصرة. فتكون على المستوى الروحي كنيسة مصغّرة بيتيّة تعيش من نعمة سرّ الزواج، وتصبح جماعة إيمان وصلاة، تساهم في بناء ملكوت الله في مدينة الأرض بالكلمة والصلاة وخدمة الحياة البشريّة؛ وعلى المستوى الإجتماعي، تكون العائلة المسيحية المجتمع الطبيعي بامتياز، الذي يسبق، بتدبير إلهي، وجودَ أي دولة أو جماعة منظّمة. ما يعني أن للعائلة حقوقاً أساسيّة لا ينتزعها منها أحد، بل توجب على الدولة وكلّ جماعة منظّمة، دينيّة كانت أم مدنيّة، أن تؤمّن للعائلة حقوقها الاقتصاديّة والثقافيّة والأمنيّة. وتكون على المستوى التربوي المدرسة الطبيعيّة الأولى التي تعلّم الحبَّ الصافي المقدّس، وتربِّي على القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، وتنقل التقاليد العائليّة والوطنيّة. وبهذه الصفة تشكّل خليّة حيّة للمجتمع، فإذا سلمت العائلة، سَلِم المجتمع.

5. إنّ حركة فرق السيّدة، هبة نبويّة في الكنيسة والمجتمع. فهي مدرسة صلاة وتأمّل، تهدف إلى عيش الحبِّ الزوجي في ضوء الإنجيل، بحيث تصبح شاهدة له في المجتمع، ومبشِّرة به في محيطها. في قلب هذه الحركة، يسعى الأزواج إلى عيش الروحانيّة الزوجيّة، إذ يرَون في الزواج طريقَ قداسة، ومكانَ حبٍّ وسعادة؛ ويلتزمون العمل والخدمة في الكنيسة والمجتمع، كلٌّ حسب مواهبه. وعلى هذا الأساس يُربّون أولادهم. لكنَّ الأساس في فرق السيدة هو مدرسة الحبّ التي جاء بها المسيح إلى أرضنا بالوصيّة الأساسيّة: “أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك وكلّ قوتك… وأحببْ قريبك حبّك لنفسك” (مر12: 30-31). لأجل النمو في محبّة الله والقريب، تقترح الحركة على أعضائها القراءةَ اليوميّة لكلمة الله، والصلاةَ الشخصيّة، والصلاةَ ال
زوجيّة والعائليّة اليوميّة إن أمكن، والحوارَ الزوجي تحت نظر الربّ، واتّخاذَ قاعدة حياة يُعاد النظرُ فيها كلَّ شهر، والقيامَ برياضة روحيّة مرّة في السنة.

أرادت فرق “السيدة” أو “عائلات مريم” أن تكون تحت حماية السيدة العذراء مريم ورعايتها، لتؤكّد عزمها على اتّخاذ العذراء الكلِّية القداسة حامية لها ومثالاً وشفيعة.

6. أيّتُها العائلات المنضوية في فرق السيّدة، يتزامن يوبيلكم الخمسين مع دعوة قداسة البابا فرنسيس لعقد جمعيّة استثنائيّة لسينودس الأساقفة الروماني حول العائلة بموضوع: “التحدّيات الراعويّة على العائلة في سياق الكرازة بالإنجيل”. وستُعقد في تشرين الأوّل المقبل. نأمل أن تساهموا بالصلاة والتفكير والإجابة على الأسئلة المطروحة في الوثيقة الإعداديّة، بالتنسيق مع اللّجنة الأسقفيّة للعائلة والحياة في لبنان.

اليوم ترتسم أمامكم، يا فرق السيّدة الأحبّاء، مساحات جديدة لإنعاش عائلات المجتمع الحاضر بالروحانيّة الزوجيّة والعائليّة. لا يريد قداسة البابا فرنسيس أن يكون اجتماع سينودس الأساقفة لإدانة الانحرافات التي تشكّل التحدّيات الراعوية الكبرى، بل أن يكون لإصلاحها ومقاربتها بروحانيّة الحبّ الزوجي والرحمة والتفهّم، ولكن من دون المساومة على الشريعة الإلهيّة الموحاة والطبيعية، وعلى تعليم الكنيسة الرسمي. من بين هذه الانحرافات والتحدّيات المساكنات من دون زواج مدني أو ديني؛ المطلّقون الذين عقدوا زواجاً جديداً مع بقاء الرباط الزوجي، ولا يتمكّنون من قبول سرَّي المصالحة والقربان، وهم على هذه الحالة الشاذّة؛ زواج المثليّين وطلب الاعتراف بهم مثل الزواج بين رجل وامرأة، ومطالبتهم بتبنّي أولاد؛ استعمال وسائل منع الحمْل خلافاً لتعليم الكنيسة الواضح والصريح؛ معاناة الأولاد الذين يعيشون في إطار أوضاع زواجيّة غير شرعيّة، وتربيتهم.

7. “لقد استُجيبت صلاتك يا زكريا” (لو1: 6)

بفضل صلاة زكريا وإليصابات كانت الهبة الإلهيّة بشخص يوحنا المعمدان.

الصلاة في العائلة ضروريّة لأنّها تضعها تحت هداية الروح القدس، وتحمي أفرادها من الخطيئة. يقول القدِّيس يوحنّا فم الذهب: “لا شيء أهمّ من الصلاة. فإنّها تجعل غيرَ الممكن ممكناً، والصعبَ سهلاً. الشخص الذي يصلّي لا يسقط في الخطيئة. وإن سقط ينهض”.

الصلاة العائليّة تمكّن حياة الأزواج والعائلة من تحويل أعمالهم إلى قرابين روحيّة مقبولة لدى الله بيسوع المسيح، بفضل مشاركتهم في كهنوت المسيح بالمعمودية وسرّ الزواج. فالصلاة العائليّة صلاة جماعيّة يتلوها الزوجان معاً والأهل والأبناء، وتشمل حياة العائلة في كلّ ظروفها: الأفراح والأحزان، والآمال والهواجس، والولادات وذكراها السنوية، ويوبيل زواج الوالدين، والغيابات والعودات، والاختبارات الخطيرة والحاسمة، ووفاة الأحبّاء. كلّ هذه الأحداث تشكّل مناسبات لتأدية أفعال الشُّكر والابتهال وتسليم العائلة ذاتها للآب الذي في السماء، وتُظهر محبّة الله التي تواكب مجرى أحوال العائلة.

8. تقبّلْ يا ربّ صلاةَ كلِّ عائلة، واستجبْ من جودتك طلباتها. تقبّل مع أمّنا مريم العذراء، أمّ العائلة، يوبيل حركة فرق السيدة وساعدها بأنوار روحك القدوس للانطلاق من جديد نحو اليوبيل الماسي، شاهدة للكلمة الإلهية ومحبة الله المتجلّيتين في شخص يسوع المسيح. ومع كلّ العائلات نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير