عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – أحد زيارة مريم لأليصابات – بكركي، الأحد أول كانون الأوّل 2013

“ذهبت مريم مسرعة إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلّمت على إليصابات” (لو 1: 39-40)

Share this Entry

1. تذكر الكنيسة في هذا الأحد زيارةَ مريم العذراء لنسيبتها إليصابات، بعد بشارةِ الملاك جبرائيل لها بأنّها ستكون أمَّ الإله المتجسّد، وإعلامِها بأنّ إليصاباتَ العاقر حُبلى هي أيضاً بابنٍ في شيخوختها، وهي في شهرها السادس. سافرت مريم مسرعة من الناصرة بلدتها إلى عين كارم بلدة إليصابات، قرب أورشليم، وهي حاملٌ بالربّ يسوع، وممتلئةٌ من الروح القدس، لكي تتقاسم مع إليصابات فرح الإيمان بما أوحاه الله في البشارتين، لزكريا ومريم، ولكي تشهد لإيمانها بمحبة الله وعنايته في خدمة إليصابات العجوز الحامل بيوحنا. نصلّي اليوم لكي يملأ قلبَ المسيحيّين فرحُ سرّ المسيح، فيعيشون الحياةَ الجديدة المُعطاةَ لهم بنعمة الأسرار، وينشرون هذا الفرح في خدمة ما هو حقٌّ وخيرٌ وسلام، ويبنون بيئةً إنسانيّةً تعمل على إنماءِ الشخص البشري إنماءً إنسانياً شاملاً، وإنماءِ المجتمع ثقافيًّا وأخلاقيًّا واقتصاديًّا.

2. يسعدني أن أحيّيكم جميعاً وبخاصّة جمعيةَ الفكر الأخضر، رئيسةً وأعضاء، بمناسبة إطلاق حملة المليون شجرة من الصنوبر المثمر، تُزرع في مختلف المناطق اللبنانية، في إطار الإستراتيجية الوطنيّة لإعادةِ التحريج في لبنان. إنّنا نهنّئُ الجمعية على المبادرة ونباركُها ونُشدّدُ على رموزها ومعانيها وعلى أهميّتها البيئيّة والوطنيّة.

ففي الكتاب المقدّس، أنشد المزمور 72 الحياةَ الوافرة التي يعطيها المسيحُ الملك الآتي: “وَفُرت الحنطةُ في البلاد، وتموّجت على رؤوس الجبال، كلبنان إذ أخرجَ ثماره وأزهاره، وأخرجت أرضُه عشبها” (مز 72: 16). وتنبّأ أشعيا أنّ مع المسيح الآتي ينتصرُ الحقُ ويحلُّ الخيرُ والبرّ: “أليس عمّا قليل يتحوّل لبنان جنّةً، والجنّةُ غابًا!”(أش 29: 17). وبشّرَ هوشع النبي بالخلاص النهائي على يد المسيح الآتي للّذين يتوبون إلى الربّ توبة صادقة: “أشفيهم وأحبُّهم بسخاء، لأنّ غضبي انصرف عن الشعب. أكون له كالندى، فيزهر كالسوسن ويغرز جذوره كلبنان، وتنتشر فروعه، ويكون بهاؤه كالزيتون ورائحته كلبنان… ويزهرون كالكرمة فيكونُ ذكرُه كخمر لبنان”(هو14: 5-8).

3. أمّا من ناحية البيئة فإنّ تحريج لبنان يحافظ على جماله الطبيعي الأخضر، فيظلَّ منسجمًا مع الصور التي تأخذها الكتب المقدّسة منه لتبيّنَ لجميع الأجيال جمال الله. والتحريج يندرج في خطّ الرموز التي تشير إلى البيئة الطبيعية حيث نعيش، والتي تطبع ثقافتَنا وميزتَنا، حسب القول المأثور: “قُلْ لي في أي بيئة تعيش، أقول لك من أنت”.

إنّكم بهذه المبادرة تُعيدون للأرض اللّبنانية بهاءها وجمالها، وتدعون للمحافظة عليها. هي التي انتقلت إلينا إرثاً ماديًّا وروحيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا. عليها كتبنا تاريخنا، وهي شكّلت هويتنا، وحدّدت رسالتنا في هذا المشرق، فإنْ خسرناها، خسرنا ذواتنا، ويصحّ فينا قول الربّ يسوع: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه”(متى 16: 26).

4. وفوق ذلك، ترتبط البيئةُ الطبيعية عضويّاً بالبيئة البشرية. فتنوُّع أشجارِها وأزهارِها وكرومِها وزيتونِها إنّما يدلّ على تنوّع ثقافة مجتمعها. فها البيئة اللّبنانية تتميّز بالتنوّع في الوحدة، وينبغي الحفاظ على هذه الميزة. لبنان أرض العيش معاً، وأرض تلاقي الأديان والثقافات المنظّم في الدستور الذي يحافظ على المكوّنات الاجتماعيّة، فلا تذوب أيٌّ منها في الأخرى. كلّها تؤلّف بيئةً وطنيّةً واحدة قوامها الحوار والتعاضد والتضامن، ويسودها نظامٌ ديموقراطيٌّ يحترم الحرّيات العامّة وحقوق الإنسان، وتُغنيه ثقافةُ التواصل التي تنبذ وترفض لغة الحرب والعنف والإرهاب. فلا بدّ من المحافظة على هذه البيئة الوطنية التي تُميّز لبنان ومجتمعَه، وتُحبِّب به الأجانبَ الذين يعيشون فيه أو يقصدونه، أعرباً كانوا أم غربيين. ولكن لا يمكن حماية هذه البيئة الوطنية، إلّا بإنسانها المزَّين بالحقيقة والأخلاقيّة والحرية، وبمؤسساتها الدستورية المنظّمة والمُنزّهة من أيّ فساد والمُحترَمة من جميع المواطنين بدءاً من القيّمين عليها.

في هذا الإطار لا يمكننا انّ نتجاهل ما يجري ويا للاسف في طرابلس العزيزة. إن جولة العنف المتفجّر ليلة أمس بات ينذر بانكشاف أمنيٍّ خطير، رغم خطة الانتشار التي تبذلها الأجهزة الأمنية مع الجيش مع ما يرافقها من توافق سياسي لتنفيذها. إنّ أخطر ما في الأمر هو عمليات القنص التي تشعل المدينة وتجعلها رهينة بيد قنّاص قد لا يكون لا من باب التبانة ولا من جبل محسن. يؤسفنا أنّ بيئتنا حاضنة لأسباب التفجّر، ما يجعلها، في أكثر الأحيان ضحية سياستها الضيِّقة. وقى اللهُ لبنان شرّ هذه الأيام.

5. “ذهبت مريم مسرعة إلى بيت إليصابات”. إنّ مريم، في زيارتها لإليصابات هي صورة الكنيسة وصورة كلّ مؤمن ومؤمنة. هي أوّل رسول وأوّل مبشّر بسرّ المسيح. ولذلك سُمّيت “نجمة الكرازة بالإنجيل”. إنّها أوّل من تبلّغ إنجيل يسوع المسيح، وأوّل من بشّر به. لكن الإنجيل ليس في الأساس كتاباً، بل هو شخص يسوع المسيح، “كلمة الله الذي صار بشراً” (يو1: 14)، جنيناً في حشاها. فكان التفاعل بين الجنينَين: يسوع ويوحنا، كما عبّرت إليصابات لمريم: “ما إن وقع صوت سلامك في أذنيّ حتى ارتكض الجنين من الابتهاج في بطني” (لو1: 41). وكان امتلاء إليصابات من الروح القدس
، وكانت تحيتها النبوية لمريم المباركة في النساء، وأمِّ ربّها، وامرأة الإيمان (راجع لو1: 41-45).

6. حيث مريم هناك يسوع المسيح. وحيث المسيح هناك الروح القدس والفرح وقراءة علامات الأزمنة. هذه هي رسالة الكنيسة والمسيحيّينفي لبنان وعلى أرض الشرق الأوسط، التي أنجبت مريم، والتي عليها تجلّى سرّ المسيح والروح القدس وانتشر الفرح الحقيقي والسلام الآتيان من السماء. بهذا المعنى قال البابا فرنسيس في لقائه مع بطاركة الكنائس الشرقية الكاثوليكية ورؤسائها الأعلين في 21 تشرين الثاني المنصرم: “لا يمكن التفكير بالشّرق الأوسط من دون مسيحيّين. هم الذين منذ ألفَي سنة يعلنون فيه اسم يسوع، ويتأصّلون كمواطنين أصيلين في حياة بلدانهم الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة”. ووجّه النداء إلى الدول “لاحترام حقّ الجميع بحياة كريمة، وبإعلان إيمانهم الخاص بحرية”. ودعا “الكنيسة للصلاة من أجل نيل المصالحة والسلام من قلب الله الرحوم. فالصلاة تُجرّد الجاهل من سلاحه، وتولّد الحوار حيث يوجد النزاع. إذا كانت صلاتنا مخلصة ومثابرة، جعلت صوتنا الوضيع والحازم مسموعًا لدى المسؤولين عن الأمم”.

7. فليكن وجودنا في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط مثل زيارة مريم لإليصابات، وجود تقاسم مزدوج. نتقاسم حقيقة المسيح مع جميع الناس والشعوب والثقافات. فنكون جماعة الحقيقة التي تُحرّر وتجمع. هذه هي الرسالة التي تسلّمتها الكنيسة من الله. كنيستنا رسوليّة، وجودنا رسولي نحمل للجميع بشرى إنجيل الخلاص والحقيقة والمحبّة وكرامة الإنسان وقدسيّة الحياة البشرية في زمن باتت فيه شريعة القتل مباحة.ونتقاسم معهم خيرات الأرض المعدّة من الله لجميع الناس، أكانت ملكيّة خاصّة أم مكليّة عامّة أمّ مالاً عامًّا. نتقاسمها بممارسة العدالة الاجتماعيّة وبالتضامن وبالمحبة التي تحرّكهما، ولاسيما تجاه الفقراء والمحتاجين على تنوّع فقرهم الروحي والمادّي والثقافي والاجتماعي. مريم العذراء في زيارتها لأليصابات مثال لنا في تقاسم حقيقة المسيح والفرح بنشيد “تعطّم نفسي الربّ”، وبخدمتها لأليصابات طيلة ثلاثة أشهر، حتى مولد يوحنا (راجع لو1: 46 و56).

تعالوا نفتح في هذه الذبيحة الإلهية قلوبنا إلى الله الذي يقاسمنا ذاته وخيور السماء بالمسيح في القربان، فندخل في شركة أفقية في ما بيننا ومع جميع الناس، ونتقاسم معهم خيورنا الروحية والمادّية والثقافية. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، الذي منه كلّ عطيّة صالحة، إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير