الفساد الإداريّ

تمهيد

Share this Entry

نودّ تسليط الضّوء على آفة من آفات مجتمعنا العصريّ ومؤسّساتنا المتنوّعة، تُعرف بالفساد الإداريّ، بهدف الوصول إلى سبيل علميّ منهجيّ يساهم باستئصال هذا الوباء من أعماق مجتمعاتنا وبعض مؤسّساتنا المهدّدة بالتّفتّت والتآكل من الرّأس حتّى أخمص القدمين.

قد يتسرّب الفساد إليك بهديّة صغيرة، أو رشوة وقحة، أو واسطة مستكبرة، أو مصلحة متبادلة، أو مواعد وهميّة… قد يتسلّل إليك وأنت متمدّد على مكتبك، فيختبئ بين أوراقك، ويستظلّ بخططك، ويتغلغل في مشاريعك… قد يتسرّب إلى أذنيك عبر اتّصال يمزج بين الإستعلاء والإستجداء من صاحب معالٍ أو سعادة… إنّها الواسطة! ربّما غدت نهجا وعرفا في بعض المؤسّسات، وأمرا طبيعيّا بل ضروريّا لدى بعض المسؤولين الوصوليّين.

وما قولك في الرّشوة؟ إنّها لقمة الفساد المستساغة، وهي مادّيّة أومعنويّة… لها تاريخها الطّويل وجغرافيّتها الواسعة…

علّنا إذا استقرأنا بعض أحداث التّاريخ وقرأنا الحاضر على ضوئها، استطعنا سبر أغوار هذا الوباء الإجتماعيّ بغية محاربته أو -على الأقلّ- تجنّب الإصابة بعدواه المدمّرة.

I-                  عين على التاريخ

إنّ الفساد في مفهومه الإداريّ المبسّط هو في الواقع سوء استعمال السّلطة العامّة لتحقيق مكاسب خاصّة من أجل الحصول على منافع غير مشروعة أومحاولة التّهرّب من الكلفة الواجبة في بعض المعاملات.

ليس الفساد بأمر مستجدّ بل تراه يعود في منطقتنا إلى القرون الخوالي، حيث كانت الرّشوة وسيلة ناجعة إبّان القرن التّاسع الميلاديّ في حياة عمّال الدّواوين وسواهم، خصوصا بعدما أضحى لكلّ شيء ثمن يُدفع، حتّى المناصب العليا التي كانت تُكسب متصدّريها أرباحا وفيرة. ويذكر التّاريخ -بطرافة- واقعة القاضي حسين بن محمّد الهاشميّ الذي دفع سنة 863 مائتي درهم من أجل الحصول على قضاء البصرة فأخذ منه المال ولم يُعطَ شيئا.

كما أنّ هناك أمثلة تاريخيّة جمّة تدعم مقولتنا، إذ يجد من يستقرئ تاريخ العرب عموما والعصر العبّاسيّ على نحو خاص، أنّ ظاهرة الفساد كانت متفشّية في أرض مصر بصورة ملفتة حيث طاولت دواوين الدّولة حتّى دوائر الأمن والشّرطة، إلى أن مسّت أخيرا الخلفاء أنفسهم بحسب الطّبريّ؛ فالخليفة “الهادي” ذاته قد سعى إلى أخذ البَيعة لابنه جعفر من هارون عارضا عليه مقابل تنازله عن ولاية العهد ألف دينار.

أمّا في العصر الفاطميّ فقد انتشرت الرّشوة في السّلك القضائيّ بين القضاة وفي القطاع السّياسيّ بين الوزراء، فبيعت الولايات والتّوليات وجنى العديد من الموظّفين والعاملين في الشّؤون العامّة أموالا كثيرة في أوقات قصيرة جدّا؛ حتّى أضحت الرّشاوى أمرا طبيعيّا وترّسخت في الأذهان والأفعال إذ أقدم عليها السّلاطين أنفسهم[1].

كذلك في العصر المملوكيّ قد استشرى الفساد وشاعت الرّشاوى وبيعت الوظائف، خصوصا على عهد السّلطان النّاصر محمّد بن قلاوون، حيث تورّط السّلطان عينه في الفساد والرّشاوى تحت ستار الهدايا؛ وتكرّر الأمر ذاته في زمن السّلطان النّاصر شهاب الدّين أحمد والسّلطانين الكامل شعبان والأشرف شعبان. أمّا في عهد السّلطان الصّالح عماد الدّين إسماعيل فقد انتشرت الفوضى وعمّ الفساد أكثر فأكثر في مختلف دوائر الدّولة[2].

وقد علّق “إبن الورديّ”[3] على هذا الواقع بقوله:

“قِيلَ لِيْ: تَبْذُلُ الذَّهَبْ
قُلُتُ: هُمْ يَحْرُقونَنِي،

بِتَوَلّيْ قَضَاءَ حَلَبْ.
وَأنا أشْتَري الحَطَبْ.”

ثمّ أخذت دائرة الرّشوة تتّسع شيئا فشيئا حتّى طالت الوظائف العسكريّة أيضا التي كانت بمثابة العمود الفقريّ لدولة المماليك. فكانت وظيفة نيابة الشّام -على سبيل المثال لا الحصر- موضوع سعي ومزايدة بين أمراء المماليك نظرا لما كان لمتولّيها من النّفوذ والسّلطة على سائر نيابات المملكة الشّاميّة، بالإضافة إلى كسب المغانم والأموال، كون نائب السّلطان هو بمثابة الرّجل الثّاني في الدّولة، وكان يُدعى بالسّلطان المختصَر[4].

II-              الفساد الإداريّ في عالم اليوم

يقولون: “التّاريخ يعيد نفسه”! ربّما لا ينطبق هذا القوّل على كلّ الأمور والأحداث، إلاّ أنّه في مسألة الفساد ومشتقّاته فهو يعيد ذاته بلا مِراء.

أمّا الفساد الذي نحن بصدده فهو الذي يشمل بنوع خاص الإدارة وسياساتها وكيفيّة ممارستها. يصفه بعض الباحثين بالعمل المتعمّد؛ فالقيام به ناتج عن سابق تصوّر وتصميم، وصادر عن قرار خاصّ وواضح. إنّه تفكّك مدروس سلفا[5].

وقد أثبتت بعض الدّراسات أنّ المؤسّسات التي تعتمد النّظام المركزيّ في إدارة شؤونها والأنظمة الشّموليّة هي عرضة للفساد أكثر من غيرها، إلى جانب انتشاره من ناحية أخرى بين الكثير من رجال الأعمال والتّجّار وموّظفي الدّولة والقطاع الخاصّ.

1.     أسبابه

إنّ الفقر والوضع الإقتصاديّ السّيّء بوجه عام والبطالة والإنقطاع عن العمل، إضافة إلى الجمع أحيانا بين الوظيفة والأعمال الأخرى في أماكن عديدة، هي أولى الأسباب التي قد تؤدّي إلى الوقوع في شراك الفساد الشّخصيّ بهدف الرّبح المادّيّ الوافر والسّريع. ناهيك عن معضلة الإرتهان السّياسيّ والإهمال الوظيفيّ وعدم الإلتزام بالعمل… كما أنّ الإمتناع عن منهجيّة الإعداد والتّدريب والتّحضير في العديد من المؤسّسات، وتجميد التقدّم الوظيفيّ، أو التّرقيات العمليّة الإنتقائيّة ه
ي أيضا من مسبّبات الفساد بكلّ أشكاله وألوانه. أضف إليها، إشكاليّة افتقار الكثير من الإدارات العامّة إلى اعتماد التّكنولوجيا العصريّة والمعلوماتيّة، ومشكلة المحسوبيّات والمحاباة والتّعاطي البيروقراطيّ المتحجّر واللئيم، والرّتابة القاتلة في العمل والفوضى وعدم المتابعة من قبل القيّمين، وغياب المراقبة والمساءلة والمحاسبة.

وماذا نخبر عن مختلف ألوان الغشّ وأشكال التّزوير وأنواع السّرقات والاختلاسات والصّفقات والتّنفيعات والوساطات والضّغوطات وفقدان الثّقة بالمؤسّسات واستغلال النّفوذ وإساءة استعمال السّلطة؛ وقلّة التّنسيق بين منفّذي الأشغال والأجهزة الإداريّة بطريقة حميدة. وعدم التّطبيق الجدّيّ لمبدأ الثّواب والعقاب من قبل المسؤولين وضعف أجهزة الرّقابة؛ أضف إليها مسألة البطء والحيرة في إنجاز المعاملات لدى العديد من الموّظّفين، وتجاوز حدود الوظيفة.

بل حدّث ولا حرج عن الرّشاوى والابتزاز الماليّ الذي يعتمد أحيانا على استعمال القوّة في التّعامل لأجل المنفعة الخاصّة. تقوم –مثلا- إحدى البلديّات بتعبيد بعض الطّرقات الدّاخليّة لمدينة ما، فيستغلّ أحد موظّفيها الكبار منصبه ويرتشي من متعهّد العمل المزمع تنفيذ المشروع، فيتقارب بذلك الفساد السّياسيّ والإداريّ، ويتعانقان.

كما أنّ هناك شكل آخر من أشكال الفساد الذي يحصل بين رجال الشّرطة وبعض المرتكبين عن طريق الابتزاز الماليّ في الأمكنة غير القانونيّة والفاسدة وغير الخلقيّة[6]. وكأنّي ببعض المواطنين والمسؤولين الرّسميّين قد أبرموا فيما بينهم عقدا اجتماعيّا سرّيا فاسدا يدفعون من خلاله الدّولة إلى الغرق بأوحال الفساد. ممّا يجعل قول الشّاعر الإنكليزيّ لورد بايرون (Lord Byron) [7] أكثر واقعيّة: “أحبّ بلادي ولكنّي أكره مواطنيها”.

أمّا تداخُل مهام بعض الوزارات والمؤسّسات العامّة وتضاربها أحيانا في ما بينها، فهي أيضا من الأسباب المؤدّية إلى الفساد. كذلك التّهرّب من المسؤوليّة خوفا من الوقوع في الخطأ. ناهيك عن ظاهرة بعض القوى السّياسيّة التي تعرقل الإصلاح وتقابل كلّ حركة إصلاحيّة بالسّلبيّة[8]. ممّا يؤدّي إلى حالة اختلال وظيفّي (Dysfunction) أي عدم الفاعليّة في تنفيذ أعمال المؤسّسات العامّة والخاصّة؛ ناهيك عن تراجع القيم الدّينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة وقلّة الأمانة، وغياب المؤسّسات السّياسيّة الفعّالة في أكثر الأحايين.

2.     طبيعته

يشبه الفساد جرثومة مميتة، تتكاثر وتتناقل وتنتشر من دون أن تحدث أدنى ضجّة. فهي تنخر الجسم الإداريّ أو السّياسيّ أو الوظيفيّ بطريقة خبيثة خفيّة. إنّها تهوى الظّلام، وتتعشّق الخفاء، وتمتهن الكذب، وتتقن المراوغة، وتتغّذّى بالرّشوة، وترتوي من الاختلاس، وتنتفخ من السّرقة. 

تنقسم طبيعة الفساد الإداريّ إلى قسمين: الفساد البسيط الذي يحصل في الأجهزة البيروقراطيّة بين الموظّف والزّبون من دون التّدخل في الشّؤون القانونيّة، والفساد المركّب الذي يؤثر على ميزانيّة المؤسّسة وسياستها بطريقة مباشرة.

ويعتبر الفساد الإداريّ عموما والسّياسيّ خصوصا، من أكبر المساحات التي تشغل عمليّة التّفكّك الإجتماعيّ لأنّه يضرب قمّة الهرم التّنظيميّ في الدّولة. ثمّة أمثلة لا تحصى في هذا السّياق. نكتفي بسرد حادثة مقتضبة حصلت في مطلع الخمسينيّات، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ لحظت هيئة إحدى المحاكم في لبنان أثناء جلسة محاكمة أنّ وكيل المدّعي والمدّعى عليه هو المحامي نفسه، وقد حاول الجمع بين النّقيضين، لتحصيل المال من المدّعي والمتّهم على السّواء، إلى أن افتضح أمره[9].

تتّسم طبيعة ذويّ الفساد عموما بالأنانيّة المفرطة، وعدم التّكامل والاتّزان والانسجام مع المبادئ الإجتماعيّة السّائدة. إلاّ أنّهم يتمتّعون بحنكة كبيرة تساعدهم في تحقيق أهدافهم الخبيثة.

3.     أنواعه

–         الفساد الذّاتي: إنّه أساس الفساد وينبوعه. فهو يتعلّق بشخصيّة الفرد وسلوكه وإدائه وهو المحرّك الأوّل لسائر أنواع الفساد.

–         الفساد الثّنائيّ: هو اتّفاق ضمنيّ وثيق بين شخصين على تصرّف أو نهج سريّ مراوغ، ومخالف للقوانين المرعيّة الإجراء، يصبّ في خانة المصلحة الخاصّة بامتياز على حساب الصّالح العام.

–          الفساد الجماعيّ: هو تعهّد ضمنيّ  بين ثلاث أشخاص أو أكثر، على تمرير مصالحهم الخاصّة بطريقة احترافيّة مدروسة من دون النّظر إلى الأضرار الجسيمة التي يمكن أن يخلّفوها ضدّ المصلحة العامّة.

–         الفساد القسريّ: هو شبكة الفساد المزمن التي يقع بعض الأشخاص في حبالها من حيث لا يدرون أو رغما عنهم، أوبسبب تهديد روّادها الفاسدين ووعيدهم، حيث يصبح الخروج منها فيما بعد صعبا أو متعذّرا بسبب الضّرر الشّخصيّ الجسيم الذي يمكن حصوله.

–         الفساد التّآمريّ: هو عبارة عن شبكة محترفة متمرّسة بأصول الفساد وممارسته، تتآمر على المسؤولين أو القيّمين بغية تنحيتهم والحلول مكانهم، أو ربّما تتحيّن الفرص للوقوع ببعض الموظّفين الزّملاء ممّن ليسوا على الخطّ نفسه.

الخاتمة

يدلّ الفساد الإداريّ بمضمونه –كما أسلفنا- على الاستغلال المقصود لمسؤوليّات الدّائرة الإداريّة أو الوظيفيّة للمصلحة الخاصّة من أجل التّكسّب الشّخصيّ المادّيّ أو المعنويّ. بيد أنّه لا يقتصر فقط على الرّموز الإداريّة والسّياسيّة بل يشم
ل أيضا أفرادا آخرين كالموظفين العاديّين الذين قد يتهرّبون من دفع الضّرائب للدّولة مثلا أو التّجّار الذين يقومون بعمليّات تهريبيّة لسلع ومنتجات معيّنة، وأولئك الذين يفشون أسرار الدّولة والمؤسّسات والشّركات وهم يتستّرون بحصانة مواقعهم. ممّا يؤديّ إلى التّفكّك الإجتماعيّ البطيئ الذي يطال الإدارة والسّياسة والشّأن العام، عبر مثلّث قاتل يقوم على الإنتقائيّة الفاسدة، والتّعصّب الدّينيّ أوّ الطّائفيّ أوالحزبيّ، والتّحيّز القوميّ. إلاّ أنّ الأخطر في هذه المسألة هو “مأسسة” الفساد وتطبيعه إذ ينخر بذلك رويدا رويدا جذور المؤسّسات والتّنظيمات على مختلف أنواعها، ويدمّر الوطن.

ولا ضَير ختاما في استذكار ما قاله الرّئيس المصريّ الرّاحل محمّد أنور السّادات: “إنّ مشاكل بلادنا كثيرة، وكلّ مشكلة قابلة للحلّ، لكن ذلك يحتاج إلى وقت؛ ويجب أن نبدأ بأنفسنا أولاّ”.

المراجع

–         أحمد عبد الرّازق أحمد: البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك، دراسة عن الرّشوة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، لبنان، 1979؛

–         برهان الدّين الخطيب: الإنحراف الإداريّ في لبنان، أسبابه ووسائل علاجه، المؤسّسة اللبنانيّة العربيّة للتّوزيع والطّباعة والنّشر، بيروت، 2000؛

–         معن خليل العمر: التّفكّك الإجتماعيّ، الشّروق، عمّان-الأردن، 2005؛

–         جريدة الأنباء، عدد 20، تاريخ 27 تمّوز 1951، زاوية دعاء.

[1]  راجع، أحمد عبد الرّازق أحمد، البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك، دراسة عن الرّشوة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، لبنان،،  1979، ص. 15-20.

[2]  المرجع نفسه، ص. 28-38.

[3]  أديب وشاعر وفقيه، ولد في معرّة النّعمان عام 1292 وتُوفّي عام 1349.

[4]  راجع، أحمد عبد الرّازق أحمد، البذل…، ص. 43-45.

[5]  راجع، معن خليل العمر، التّفكّك الإجتماعيّ، الشّروق، عمّان-الأردن، 2005، ص 223-237

[6]  المرجع نفسه، ص.  ص 234.

[7]  جورج غوردن بايرون (1788-1828)، المعروف باللورد بايرون. شاعر إنكليزي رومانسيّ.

[8]  راجع، برهان الدّين الخطيب، الإنحراف الإداريّ في لبنان، أسبابه ووسائل علاجه، المؤسّسة اللبنانيّة العربيّة للتّوزيع والطّباعة والنّشر، بيروت، 2000، ص. 47-48.

[9]  راجع، جريدة الأنباء، عدد 20، تاريخ 27 تمّوز 1951، زاوية دعاء.

Share this Entry

الأب فرنسوا عقل المريمي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير