أيُّها الأصدقاء والمؤمنون في الأرض المقدسة: في عيد الميلاد المجيد تتجهُ أنظار العالم إلى مدينة بيت لحم. فمن قلب الصراع والعنف، اللذين يمزقان شرقنا الأوسطي، تنبع عذوبة سر الميلاد المجيد. وفي هذا الوقت بالذات، لا يسعنا إلا أن نذكر في صلواتِنا مواطني ولاجئي سوريا، كما نذكر كلَّ من يعاني ألماً في جسده وفي قلبه. ولا سيما المهاجرين الفيليبينيين المقيمين في أبرشيتنا، في الأردن وفي إسرائيل، والذين شعروا بأثر الإعصار الفتاك الذي ضرب بلادَهم مؤخراً.
أصدقاءنا الصحفيون، إننا نقدر لكم تأهبكم لتغطية أخبار الأرض المقدسة كي لا تذهب أدراج النسيان. فبالرغم من عدمِ الاكتراث الدُولي لما يحدث في الأرض المقدسة، وتوجّه الأنظار إلى المأساةِ في سوريا، لا بدَّ من أن نُشدِّدَ على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو جوهر الصراع الدائر في المنطقة، ويشكل عقبة رئيسة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
ومن هذا المنظور، أود أن أرسم معكم صورة عن أوضاع العام الذي أوشكَ على الرحيل، بما صاحبه من أحداث سواءً مُفرِحة أو مُؤلِمة، وهي فرصةٌ مُناسِبة لأن نتطلع إلى العام المقبل، يحدونا الأمل والرجاء بمستقبلٍ وغدٍ أفضل.
1. الكرسي الرسولي
– خلال وجودي للاحتفال بالقداس الذي أقيم في روما يوم 19 آذار، لدى اعتلاءِ البابا فرنسيس السُدَّةَ البطرسية، أُتيحت لي فرصة لقاء الأب الأقدس عدة مرات خلال هذا العام. قداسة البابا يحفظ الأرض المقدسة والشرق الأوسط في قلبه وصلاتِه بشكلٍ خاص. وتصريحاته تثبت لنا أن الكرسي الرسولي يسير بُخطىً ثابتة ونهجٍ واضح فيما يتعلق بمنطقتنا. ومع وجود بطاركة ورؤساء أساقفة الكنائس الشرقية الكاثوليكية المجتمعين في روما يوم 21 تشرين الثاني الماضي، أعرب البابا فرنسيس عن “قلقه الشديد” إزاء ما يحدث لنا، داعياً “إلى عدم التسليم بشرق دون مسيحيين فيه”.
– فيما يتعلق بالاتفاق الاقتصادي الذي سَيُبرَم قريباً بين إسرائيل والكرسي الرسولي، أود أن أؤكدَ لكم بأن العثمانيين، والبريطانيين والأردن وإسرائيل (طيلة 20 عاما)، احترموا الوضع القائم (Stato quo) الذي يعفي الكنائس من دفع الضرائب. واليوم ترغب إسرائيل في إدخال تعديلات عليه، وتغير هذا الوضع القائم. ما يهمنا هو ألّا يمسّ ذلك بالقدس الشرقية، التي لا تزال قضيتها على طاولة المفاوضات، بانتظار الحل النهائي والعادل. ونحنُ كمسيحيين، لا نريد بأي شكل من الأشكال، أن تضفي هذه الاتفاقيات أيَّ بعد سياسي من شأنه أن يبدل وضع القدس الشرقية، المحتلة منذ العام 1967.
2. حياة الكنيسة الأم
– اختُتِمَت سنة الإيمان في أبرشيتنا في 17 تشرين الثاني في مدينة الناصرة بحضور 7000 مؤمن من جميع الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، بالإضافة إلى الحجاج الذين شاركونا هذا الاحتفال الديني، من مختلف بلدانِ العالم. وكانت هذه فرصة للتذكير بوجود علاقة هامة جداً ما بين حياة الإيمان، والتكاتف والسعي بحثاً عن السلام. إننا نعرب عن شكرنا لوزارة السياحة الإسرائيلية التي حرصت على تأمين البُنى التحتية في سبيل نجاحِ هذه المناسبة الهامة، وبما يضمن سير الأمور بسلاسةٍ ويُسر.
– كما كان من دواعي سرورنا أيضا أن يتوجه 120 من شباب الأرض المقدسة ليشاركوا في الأيام العالمية للشبيبة في ريو دي جانيرو، التي جَرَت في تموز المنصرم، جنباً إلى جنب مع الملايين من الشباب المسيحي الذين هبّوا تلبيةً لدعوة المسيح، مع قداسة البابا فرنسيس.
3. الأوضاع السياسية
– أوضاع الشرق الأوسط تزداد تعقيدا ومأساوية. والسيناريوهات التي تمر بها سوريا والعراق تتكرر في أماكن أخرى، كما يحدث في مصر وفي ليبيا. إنّ عدم الاستقرار يقض مضاجع الجميع بما فيهم المسيحيين الذين قد يقعون فريسة لإغراء الهجرة. وفي قطاع غزة يعاني المواطنون من الحصار الإسرائيلي الخانق وحتى المصري أيضاً. ولنتجنب انتشار لهيبِ الصراع في المنطقة بكاملها، يجب تكثيف الجهود الرامية إلى إيجاد حلٍّ يُرضي جميعَ الأطراف، ويُعيد السكينة والسلام إلى قلوبِ العباد وأوطانِهم، ويُفضي إلى إعلانٍ فوري يقضي بوقف إطلاق النار في سوريا وحظر دخول جميع أنواع الأسلحة. يجب أن يُدركَ الجميع بأنَّه لا يمكن حل القضية السورية بقوة السلاح، لذلك ندعو جميع القادة السياسيين، في منطقتنا وفي العالم بأسره، إلى الاضطلاع بمسؤولياتهم بضميرٍ حي يراعي كرامة الإنسان في الدرجة الأولى، لإيجاد حل سياسي مقبول، من شأنه أن يضع حدا للعنف الطائش ويحترم حياة الناس.
كلُّكم شهود عيان لمعاناة الضحايا واللاجئين السوريين، وبشكل خاص في موجة البرد الحالي التي تجتاح المنطقة. إن البطريركية اللاتينية تعرب عن امتنانها لمؤسسة الكاريتاس الأردنية وجميع المنظمات الإنسانية الدولية، القائمة على خدمات الإغاثة والتضامن مع هؤلاء المساكين.
– استؤنفت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في نهاية شهر تموز بعد انقطاع دام ثلاث سنوات، غير أن هذه الجهود لَقيت الإحباط نظراً لمواصلة سياسة الاستيطان الإسرائيلي. وطالما لا يوجد حل جذري ونهائي
– لهذه المشكلة، تتواصل معاناة الشعوب هنا وفي كلّ المنطقة، وتتوسع دوامة العنف مُهدِّدَة بسقوط المزيد من الضحايا الأبرياء. إن الرغبة الصريح
ة والواضحة لدى الطرف الإسرائيلي في الاستيلاء على الأراضي الواقعة في محيط دير كريمزان غرب بيت جالا، لاستكمال بناء جدار الفصل العنصري، وهدم بيت تعود ملكيته للبطريركية اللاتينية في شرقي القدس -قبل بضعة أسابيع- لهو دليل قاطع على التصعيد، الأمر الذي لا يساهم أبداً في تقدم مسيرة السلام ودفع عجلتها قُدُمَاً. لا يمكن أبداً القبول بأن يُفرضَ واقع الظلم علينا بالقوةِ وبشكل جائر، فمنطق القوة المتَّبَع لا يمكن أن يصبحَ أساساً لحقوق جديدة، ولا يحق لنا نحن المسيحيين أن نلتزمَ الصمتَ أو الحياد السلبي.
ونودُّ أن نذكر بالوعدِ الذي صدر يوم 16 كانون الأول، عن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، لتقديم دعم سياسي واقتصادي وأمني “غير مسبوق” للإسرائيليين والفلسطينيين في حال نجح الطرفان في التوصل إلى اتفاق سلام في ختام المفاوضات، الأمر الذي يبعث الأمل في النفوس، عسى وعلّ أن نصل لحلٍّ لهذه الأزمة التي طالَ أَمدُها.
4. النشاط المسكوني والحوار بين الأديان
– احتفل المؤمنون الكاثوليك في الأرض المقدسة (مع استثناءات قليلة) بعيد الفصح الماضي، يوم الخامس من أيار، رغبة منا في توحيد موعِد الأعياد مع المؤمنين الأرثوذكس. إن توحيد موعد عيد الفصح ليس بالأمر السهل، غير أنه يشكل خطوة أولى نحو الوحدة الكاملة بين المسيحيين، الأمر الذي يتطلب جهودا وتنازلات من كِلا الطرفين.
– لدى انعقاد المؤتمر حول “التحديّات التي تواجه العرب المسيحيين” يومي الثالث والرابع من أيلول 2013، تحت رعاية جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، قام ما لا يقل عن 70 بطريركاً ورؤساءَ جماعات
مسيحية في المنطقة، بدراسة تداعيات الربيع العربي على مختلف الأديان وخصوصاً على المسيحيين، وكانت لديهم الجرأة في للمطالبة بإجراء تعديلات على الدساتير المعمول بها في الدول العربية، بحيث يتمكن المسيحيون من الشعور بأنهم مواطنون في بلدانهم كغيرهم، يتمتعون بجميع الواجبات والحقوق ,بما في ذلك الحرية الدينية.
– إننا نشجب أيضا جميع أشكال الأصولية الدينية. ومن جهة أخرى، لاحظنا في سياق هذا العام أن طرأ ازديادٌ على أعمال التخريب في أبرشيتنا، استهدفت قُرابة عشرين موقع من الأماكن المقدسة أو أماكن العبادة، قام متطرفون بتنفيذها.
5. الأولويات ومشاريع البطريركية
– لبناء السلام ولمواجهة تيار المتطرفين بروح نبوية، تدير الكنيسة الكاثوليكية 58 مدرسة في فلسطين، و20 في إسرائيل، و40 في الأردن بالإضافة إلى صروحٍ أكاديمية تُعنى بالدراسات الجامعية. وفي 30 أيار، جرى الافتتاح الرسمي للجامعة الأمريكية في مادبا بحضور جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين ، وعدد من الوزراء والرسميين والأكاديميين، بالإضافة إلى عميدِ مجمع الكنائس الشرقية، الكردينال ليوناردو ساندري.
– وخلال شهري شباط وآذار جرى تسليم مفاتيح 72 شقة سكنية في المُجمّع السكني الجديد في بيت صفافا إلى قاطنيها. ويهدف هذا المشروع العقاري إلى تشجيع الفلسطينيين المسيحيين على إقامة المشاريع التضامنية للتغلب على الأزمة السكنية في القدس، لتأمين حاجتهم في مساكن كريمة ولائقة، ولتفادي فكرة الهجرة التي لا تزال تنخر في عمق جذور الوجود المسيحي.
6. جدول الأعمال للعام 2014
من الأحداث الهامة المنتظرة للعام القادم، نَذكُر:
– زيارة البابا المرتقبة للأرض المقدسة، التي ستجري في أيار القادم، أولا إلى الأردن ثمّ إلى فلسطين وإسرائيل.
– الزيارة الرعوية التي سنقوم بها لتفقّد أحوالِ أبنائنا المسيحيين في المهجر، في الولايات المتحدة، في تموز 2014.
– سينودس العائلة الذي سيُقام في روما من 5 إلى 19 تشرين الأول 2014، حول “التحديات الرعوية للعائلة في إطار الكرازة“.
7. الخاتمة
وفي الختام، أرفع صلواتي بمشاركة النواب البطريركيين والمؤمنين في الأرض المقدسة، من أجل أن يتلاقى المسيحيون واليهود والمسلمون معاً، في تراثهم الروحي ذي الجوانب والاهتماماتِ المشتركة، حيث يتمكنون سويّة من تنسيق أعمالهم ووضع حد للظلم والجور والجهل وجميع أعمال الشر التي من شأنها أن تدمر هبة الله لنا، وهي الكرامة الإنسانية.
إنني أطلب إلى الطفل يسوع، بمناسبة الأعياد الميلادية، أن يمنح السلام والأمن والاطمئنان لجميع شعوب المنطقة.
حلّت بركة الميلادِ عليكم جميعاً، وكل عام وانتم بخير
وشكرا جزيلاً لكم.
† البطريرك فؤاد طوال
بطريرك القدس للاتين