1. تحتفل الكنيسة، في هذا الأحد السابق لعيد ميلاد ابن الله إنساناً لخلاصنا، يسوع المسيح، بنسبه إلى العائلة البشرية عامّة، وإلى عائلة متسلسلة تَحَدَّرَ منها، عبر مسيرة تصميم الخلاص الإلهي، إنطلاقاً من محطَّتَين: إبراهيم وداود، وصولاً، عبر محطّة ثالثة، إلى يوسف خطّيب مريم التي وُلد منها يسوع بالروح القدس. انتسب المسيح الإله إلى العائلة البشريّة، متضامناً معها في أفراحها وأحزانها، في سلامتها ومرضها، في قوّتها وضعفها. قارب كلَّ الناس ولا سيّما المرضى والمعوَّقين، تماهى معهم، وسمّاهم “إخوتَه الصغار” (متى25: 40)، وشفى الكثيرين منهم، وجعلهم علامةَ حضوره وغايةَ رسالته. إستقبل الخطأة ودخل بيوتَهم، وحرّرهم من عبودية خطاياهم، وزرع في قلوبهم السعادة والسلام. وفي موازاة ذلك، “كان يجوب الجليل كلّه، وينادي بإنجيل الملكوت داعياً إلى التوبة”(راجع متى4: 17 و23).
2. يسعدُني أن أحيِّيكم جميعاً، وبخاصّة أربعَ جماعات تشارك معنا في هذا القدّاس الإلهي. أُحيّي أولاً ادارة وأساتذة ثانوية الراهبات الأنطونيات – مار ضومط روميه، وعلى رأسهم الأخت باسمه الخوري. ثم أُحيّي جوقة المدرسة اللّبنانية للضرير والأصمّ – بعبدا التي تؤمِّن خدمة هذا القدّاس، ونرحّب بأهلهم وبرئيسة الجمعيّة اللّبنانيّة للضرير والأصمّ السيدة لور ضوميط ونائبة الرئيسة السيدة جانيت شمعون واصدقاء الجمعية والمدرسة، وفي مقدّمتهم اللّبنانية الأولى الأسبق، السيدة منى الهراوي ومعالي الوزير السابق ميشال ادّه وبممثل غبطة البطريرك غريغوريوس الارشمندريت شربل حكيم. إنّ خدمة الضرير والأصمّ تذكّرنا بحضور المسيح معنا فيهم ومن خلالهم. المسيح حاضرٌ فيهم بجرحهم وهو امتدادٌ لجرحه النازف من أجل فداء العالم والمحتفَل به في هذه الذبيحة الأسرارية، غير الدموية. والمسيحُ حاضرٌ من خلالهم وقد قال: “كُنتُ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، وخدمتموني” (راجع25: 35-36)؛ ومن خلالهم يواصل رسالته المسيحانيّة عبر كلّ من يعتني بهم وبأمثالهم، كما أعلن لبعثة يوحنا المعمدان مُجيبًا على سؤاله: “أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟”: إذهبا وقولا ليوحنا ما سمعتُما ورأيتُما: “العميانُ يبصرون، والصمُّ يسمعون، والعُرج يمشون، والبرصُ يطهرون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون، وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ!” (متى 11: 4-6).
3. وأرحّب ثالثًا بمؤسّسة Apostolica الكنسية الرسولية، وبمؤسّسها، سيادة أخينا المطران عاد أبي كرم، راعي أبرشيتنا المارونيّة السابق في اوستراليا، وقد شاء أن نعلن اليوم إطلاق رسالتها. تضمّ Apostolica إكليريكيّين وعلمانيّين، وتعمل تحت شعار: “الإنجيل، آفاق جديدة لأزمنة جديدة”. رسالتها: اعتماد ثقافة الإنجيل قوّة تبدّليّة في حياة مسيحيّي لبنان والشَّرق الأوسط، بحيث يعيشون ديناميّةً جديدة في محيطهم، ويجعلون أرضنا المشرقيّة مساحةَ تلاقٍ وحوار بين أبناء وبنات الديانات الموحّدة لخير بلدانهم وتطويرها. هي رسالةٌ يلتزم بها رعاة الكنيسة والمؤمنون العلمانيون. فتؤمّن الكنيسة تنشئتهم بثقافة ملائمة للتحدّيات المعاصرة، وهم يجسّدون هذه الثقافة في نشاطاتهم الزمنية، في العمل والتجارة والاقتصاد والسياسة والثقافة والطب، وفي الفنون ووسائل التواصل الاجتماعي. وتعنى مؤسّسة Apostolica بتنشئة كوادر للتعليم المسيحي والعمل الراعوي، وبالتربية على ثقافة القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، وعلى ثقافة الحوار والسلام.
4. وأُحيّي، أخيرًا لا آخِرَ، الكُتّاب العدل – لدورة 2013 وعددهم 42، موزّعين مناصفة بين مسيحيين ومسلمين. وإذ نُهنّئهم بعد انتظار خمسة اشهر على تعيينهم بمرسوم صدر منذ أربعة أيام (18/12/2013)، موَقّعًا من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المعني، نرجو لهم النجاح في مَهمّتم، وقد عُيّنوا في مراكز مختلفة من لبنان.
5. “كتابُ ميلاد يسوع المسيح، ابن داود ابن ابراهيم” (متى1: 1). بهذا الإعلان الذي يستهلّ به القدِّيس متى الرسول إنجيله، أراد إظهار أنّ يسوع هو “ابن إبراهيم وابن داود” للدلالة أنّ فيه يكتمل وعد الله، ويبلغ تاريخ الخلاص ذروته. إكتمل وعدُ الله لإبراهيم بنسلٍ يكون كرمل البحر،بالمسيح الذي انطلق منه شعب الله الجديد، البشرية الجديدة، المولودة من سرّ موته وقيامته، والمتمثّلة بالكنيسة، جسده السرّي.
واكتمل وعده لداود بمسحه ملكًا على شعبه، بالمسيح الذي أسّس مملكة لا نهاية لها، هي ملكوت الله البادئ في كنيسة الأرض المجاهدة، والمُهيَّأ ليكتمل في كنيسة السماء الممجّدة.
لقد أشركنا المسيح في ملوكيّته بواسطة المعموديّة ومسحة الميرون، لكي نتحلّى، من جهة، بإيمان ابراهيم وإصغائه لصوت الله وطاعته،ومن جهة أخرى، بملوكيّة داود التي اكتملت وتقدّست بملوكيّة المسيح، فنعمل جاهدين على بناء مملكة الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية، وبالنتيجة مملكة السلام على أرضنا وفي أوطاننا، في لبنان والشّرق الأوسط، وبلدان الانتشار، حيث يتواجد شعبنا تحت كلّ سماء.
6. في شجرة نسب يسوع التي سمعناها، توجد أسماء معروفة بما أنجزت في التاريخ البشري والتاريخ الخلاصي، وأس
ماء مجهولة لم تأتِ بأيّ إنجازات، للدلالة على أنّ هؤلاء أيضًا دخلوا في تاريخ محبة الله المجّانيّة الشاملة لجميع الناس والشعوب، وأنّ يأتمننا المسيح على هذه المحبّة الفارقة. وتوجد أيضاً أسماءُ نساء، بينهنّ إثنتان وثنيَّتان: رحاب وراعوت (متى1: 5)، واثنتان ملطّختان بالخطيئة تامار وامرأة أوريّا (متى 1: 3 و6). هذا دليل أن يسوع الملك الجديد يخلّص ويفتدي على السواء الأبرار والخطأة، الرجال والنساء، وأن لا أحد يُقصى عن رحمته. لكنّ الشرط واحد وهو الانفتاح على رحمته وقبولها.
7. يمكننا كلّنا أن نضيف أسماءَنا إلى شجرة هذه العائلة البشرية المكتملة بالمسيح. فالله اختار أن يسير معنا في تاريخنا البشري، لكي نسير معه بالتعاون في تحقيق تاريخه الخلاصي. إنّه عمّانوئيل، إلهنا معنا.
وأنتم، أيّها الإخوة والأخوات، في الجمعيّة اللّبنانية للضرير والأصمّ، إنّما تنتمون بامتياز إلى هذه الشجرة من نسب يسوع. أسماؤكم مكتوبة فيها بأحرف من ذهب، لأنّ من خلالكم يتواصل حضور يسوع المسيح في المجتمعات البشريّة، وتتواصل فيكم حسّيًّا آلامه لخلاص العالم من خطاياه وشروره، ولدعوته إلى التوبة والمصالحة مع الله.
بفضلكم تستمرّ الشهادة لمحبته ورحمته للبشر أجمعين، عبر كلّ الذين يعتنون بكم في المدرسة اللّبنانية للضرير والأصمّ. الشكر كلّ الشكر للقيّمين على هذه المدرسة، فإنّها تنظّم برنامجاً شاملاً لتأهيل هؤلاء الإخوة والاخوات على المهن ولتوظيفهم في مختلف المجالات، ومنها تظهير الأفلام الشعاعية وتعقيم أدوات غرفة العمليات في المستشفيات؛ توزيع المخابرات الهاتفية والعمل على الحاسوب في المؤسسات؛ الأشغال القشّية والخيزران والحياكة وتوضيب السلع في المصانع والمعامل، العمل في حقل الموسيقى والصحافة والترجمة والتعليم وسواها. كما تهيّئهم لامتحانات الباكالوريا ودخول الجامعات.
طلابها المتنوّعون في انتماءاتهم، مُوحَّدون في كرامتهم البشريّة وغنى عاطفتهم الإنسانية، في بنوّتهم لله ومحبّته لهم ودعوتهم للمشاركة في مجد المسيح الفادي، وفي نفوسهم المقدّسة بالنعمة.
8. هؤلاء هم أصحابُ حقّ، بحكم المواطنة. من حقّهم، بفضل مهارتهم وأخلاقيّتهم، أن يُساهموا في حياة المجتمع والدولة والمؤسّسات العامّة. هؤلاء الأحبّاء إعاقتهم في أجسادهم، أمّا عقلهم فيزرع الحقيقة، وإراداتهم الخير، وقلوبهم الحبّ والمشاعر الإنسانية. هم، على العكس من بعض أصحّاء الجسد، الذين فيهم إعاقة العقول الكاذبة والإرادات الشريرة والقلوب المتحجّرة.
أليس المعاقون حقّاً هم الذين، بسبب إعاقة مصالحهم، يعطّلون تأليف حكومة جديدة قادرة على مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة؟ وبسب عجزهم عن اتّخاذ القرار الوطني المسؤول، يروّجون للفراغ أيضًا على مستوى رئاسة الجمهورية؟ أليس المعاقون حقّاً هم الذين، بسبب إعاقة عبوديّتهم، لا يقدرون على التحرّر من أحقادهم ونزاعاتهم وتكفير غيرهم؟ أليس المعاقون حقّاً هم الذين، بسبب إعاقة حساباتهم الصغيرة والرخيصة، يعجزون عن وضع قانون جديد للانتخابات النيابية من شأنه أن يحفظ المساواة الحقيقية بأصوات الناخبين بين المسلمين والمسيحيين، وأن يحصّن جمال العيش المشترك وقيمته؟ أليس المعاقون حقّاً هم الذين، بسبب إعاقة ارتهانهم لنافذين في الداخل والخارج، لا يستطيعون التخلّي عن سلاحهم وإرهابهم وعنفهم؟ أليس المعاقون حقًّا هم الذين، بسبب موت ضميرهم، يسخّرون مسؤوليّتهم لسرقة المال العام والفساد والرشوة؟ أليس المعاقون حقًّا هم الذين، بسبب الارتزاق غير الشّريف، يختلقون الكذب والتضليل وتزوير الحقائق؟
أجل، إذا كان لا بدّ من إصلاح، ينبغي دعوة الأخوة والأخوات المعوَّقين في أجسادهم ولكنّهم في تمام سلامة عقولهم وإراداتهم وضمائرهم وقلوبهم، وإشراكهم في مؤسسات الدولة والمسؤوليات العامة.
يا ربّ، اعضدنا بكلمة إنجيلك ونعمة أسرارك وحلول روحك القدّوس علينا، لكي نسلم نفسًا وجسدًا، ونرفع إليك، بأعمالنا الصالحة والبنّاءة، نشيد المجد والتسبيح، أيها الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.