فخامة الرئيس،
1. يُسعدني أن أُرحّبَ بكم، باسم صاحب الغبطة والنيافة الكردينال البطريرك مار نصرالله بطرس صفير والسفير البابوي والسادة المطارنة، وقد شئتم، كالعادة، أن تُشاركونا الاحتفالَ في هذا الكرسيِّ البطريركيّ، ومعاونيكم وهذا الجمهور الكريم، بعيد ميلاد المخلّص المسيح الرب. إنّه كلمةُ الله الذي صار بشرًا، وأعلنَه الملاكُ في ظلمة الليل لرعاة بيتَ لحم بُشرى سارّة للعالم كلّه تُبدِّدُ عنه ما يكتنفُه من ظلمات. “فتنادى الرعاةُ للحال وقالوا: “هيّا بنا إلى بيتَ لحم لنرى الكلمة التي أعلمنا بها الرب“(لو2: 15).
إنّها مناسبة نقدّمُ لكم فيها، فخامةَ الرئيس، أطيبَ التهاني والتمنّيات، ومن خلالكم نقدّمها لكلِّ اللبنانيين، أكانوا على أرضِ الوطن، أم في أيِّ بلدٍ آخر من شرقنا العربي، أم في بلدان الانتشار. نسألُ المسيحَ الربّ أن يجعلَ من السنة الجديدة 2014 زمنَ خيرٍ وسلام، وأن يُحقّقَ أمنياتِكم الكبيرة، ويبلغَ بكلمتِكم الصريحة والسديدة إلى نفاذِها، وهي: تأليفُ حكومةٍ جديدة ميثاقيّة قادرة على مواجهةِ الأزماتِ والتحدياتِ المُقلقة، لاسيما الاقتصادية منها والأمنيةِ والاجتماعية، التي لا تتحمّل أيَّ تأجيل؛ ووضعُ قانونٍ جديد للإنتخابات؛ وإعدادُ الاستحقاق الكبير بانتخابِ رئيسٍ جديد للجمهورية في موعده الدستوري.
2. “هيّا بنا إلى بيتَ لحم لنرى الكلمة“(لو2: 15). هي الكلمة محورُ الميلاد ومحورُ تاريخِ البشر الخلاصي. كتبَ عنها يوحنا الحبيب في مطلِعِ إنجيله: “في البدءِ كان الكلمة. والكلمة كان مع الله، وكان الكلمةُ الله. به كلُّ شيءٍ كُوِّن، وبدونِه لم يكن شيءٍ ممّا كان… والكلمةُ صارَ بشرًا وسكنَ بيننا، مملوءًا نعمةً وحقًّا”(يو1: 1و3و14).
أسرعَ الرعاةُ إلى بيتَ لحم لكي يَرَوا الكلمة، فرأَوْها “طفلاً مُضجعًا في مذود“(لو2: 17). ولما شاهدوا “أخبروا بالكلمة” التي قيلت لهم”(لو2: 17)، ثمّ رجِعوا وهم يمجّدون الله ويسبّحون على الكلمة التي سمعوها ورأَوها(راجع لو2: 20).
أجل، الكلمة هي محورُ الميلاد. فالمسيحُ المخلّص، الإلهُ المولودُ إنسانًا، هو كلمةٌ تُعلَن لنا ونحن نقبلُها؛ وكلمةٌ نراها ونخبرُ عنها(1يو1: 1-3)، فتُوَلِّدُ الإندهاش وتستقرُّ في القلوب؛ وكلمةٌ نُصلّيها تمجيدًا وتسبيحًا لله.
هذه الكلمة – الإله المتجسِّد هي ينبوعُ ثقافتِنا المسيحية، ونحن مدعوُّون لنشرِها وطبعِ شؤونِنا الزمنية بقيَمِها ونتائجِها في لبنان وهذا المشرق.
3. المسيح ابنُ الله المتجسّد هو كلمةُ الآبِ الوحيدة والكاملة والنهائية. به قال اللهُ للبشريةِ كلَّ شيء، وختمَ كلَّ ما سبقها من أقوالِ الأنبياءِ والمزاميرِ وسائرِ الكتب المقدّسة، لأنّها اكتملت في المسيحِ وانكشفت رموزُها. ولقد سمعنا في الرسالة إلى العبرانيين التي تُليَت علينا هذا التأكيد: “أنّ الله، بعد أن كلّمَ آباءَنا قديمًا بالأنبياءِ مرّاتٍ كثيرة وبأنواعٍ شتّى، كلّمنا نحن، في هذه الأيام الأخيرة، بابنه الذي جعله وراثًا لكلِّ شيء، وبه أيضًا أنشأ العالم”(عب1: 1-2).
كتب القديس يوحنّا الصليبي، مُعلِّقًا على هذا القول: “عندما أعطانا اللهُ ابنَه، والابنُ هو كلمتَه الأخيرة القاطعة، قال لنا كلَّ شيءٍ دفعةً واحدة… لأنّ كلَّ ما قاله سابقًا بتصريحاتٍ مجزّأة في الأنبياء والكتب، يقولُه الآن بنوعٍ كامل، مُعطيًا أيّانا كلَّ شيءٍ في الابن”.
أجل! قال لنا الله بالكلمة المتجسّد كلَّ الحقيقة المثلّثة وهي حقيقةُ الله والإنسان والتاريخ. قال لنا حقيقةَ الله الظاهرة في المسيح، الذي هو، كما سمعنا في الرسالة المذكورة “ضياءُ مجد الله، وصورةُ جوهره، وضابطُ كلَّ شيءٍ بكلمة قدرته“(عب1: 3). وعندما طلبَ فيليبس من يسوعَ: “أرنا الآب وحسبُنا”، أجابه الربّ: “مَن رآني يا فيليبس، رأى الآب”(يو14: 8-9).
وقال لنا حقيقةَ الإنسان، هو القدّوس الذي صار إنسانًا بكمال الطبيعة الإنسانية؛ فكّرَ بعقل إنسان، وأحبَّ بقلبِ إنسان، وعمِلَ وباركَ بيد إنسان. قال عنه بولس الرسول: “لقد شابهنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة”(عب4: 15).
وقال لنا حقيقةَ تاريخ البشر: أنّه تاريخٌ يصنعُه بالتعاون مع كلِّ إنسان، لكي يصبحَ تاريخَ خلاص. فتصميمُ اللهِ الخلاصيّ يتحقّقُ عبرَ مراحلِ تاريخِ البشر. هذه هي كرامةُ كلِّ شخصٍ بشريّ وقدسيةُ حياته، أنّه معاونُ الله في صنع التاريخ.
تُردِّدُ الكتبُ المقدّسة أنَّ الله ينبوعُ كلِّ حقيقة: كلمتُه حقيقة، شريعتُه حقيقة. ولأنَّ اللهَ حقيقةٌ ومحبّة، كلُّ شعبِه مدعوٌّ ليعيشَ في الحقيقة والمحبة (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 107، 110).
لهذه الحقيقة والمحبّة يشهدُ المسيحيّونَ في لبنان وبلدان الشرق الأوسط وفي كلِّ مكان. وبهما يُساهمون في بناءِ مجتمعٍ أكثرَ إنسانيّة وأخوّة وكرامة.
4. أن نقولْ إنَّ الله “قال لنا بالمسيح كلَّ شيءٍ دفعةً واحدة“، هذا لا يعني على الإطلاق أنّ المسيحَ الكلمةَ كلمةٌ جامدة من الماضي ومنتهية في الماضي، وكأنْ لا علاقةَ لها بحياتنا اليومية. بل هي كلمةٌ فاعلة ونابضة ومتجدّدة بالروح القدس الذي يقودُ الكنيسة والمؤمنينَ والمؤمنات إلى كلِّ الحقيقة المثلّثة (يو16: 63)، وإلى قراءتِها واستنباطِ مضامينِها يومًا بعد يو
م، وجيلاً بعد جيل. لذا تُؤكِّد الكنيسة أنّ المسيحية ديانةُ الكلمة،لا ديانةَ الكتاب؛ ديانةُ كلمةٍ مُتجسّدةٍ وحيّة، لا كلمةٍ مكتوبة وصامتة وحرفٍ ميِّت، لأنّ الروحَ القدس الذي أوحاها هو يفتحُ أذهاننا لفهمها (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 108).
فخامة الرئيس،
5. أنتم شخصيًّا من المؤمنين بكلمة الله، وتستمدّون منها دائمًا صمودَكم في الحقِّ وفي قول الحقِّ بشجاعةٍ ووضوحٍ ومحبّة، بِحكم قسمِكم اليمين على الدستور، فيما العديدُ من السياسيين ينقادون إلى مصالحهم الشخصيةِ والحزبيةِ والمذهبية، على حساب الحقيقةِ والدستورِ والقانون والدولةِ والوطن. ويُغَطّون، كما يُقال “بغطاءٍ سياسي“، المخالفاتِ والتجاوزاتِ والاعتداءات، ثم يقولون، عندما يُطالِبُ الرأيُ العامُّ بردعِها وبإصلاح الفساد: “هذا يقتضي قرارًا سياسيًّا“.
الدستور حقيقةٌ لا يحقُّ التلاعبُ بها من أجلِ مصالح شخصية أو فئوية، ولا يحقُّ إهمالُها والتنكُّرُ لها وتجاوزُها. القانون حقيقةٌ ينبغي احترامُها والتقيّدُ بها. الكلمةُ التي يفوه بها الإنسان، كلُّ إنسان، كبيرًا كان أم صغيرًا، سياسيًّا مسؤولاً أم مواطنًا عاديًّا، يجب أن تكونَ كلمةَ حقيقةٍ لا كذبٍ وباطلٍ وإساءة.
أنتم، فخامةُ الرئيس، على هذا المستوى، صاحبُ كلمةِ حقٍ ومحبةٍ وتوجيهٍ وثبات، كلمةٍ لا تساوِم، ولا تقامِر، ولا تُسيء. تقولون الحقيقة لأنها جميلة وتكشف بهاءَ الروحِ والقلب، ولأنها وحدها تُحرِّر وتجمع وتبني. وليعلم اللبنانيون أنّ الحقيقةَ في حياتهم الشخصية والعائلية والاجتماعية والوطنية هي وحدها تحرّرُهم من كلِّ ارتهانٍ واستقواء، ومن كلِّ مصلحةٍ تنالُ من المصلحة العامة وخيرِ البلاد. وليعلموا أن الحقيقة وحدها تخلّصهم أمام ربّهم وتخلّصُ لبنان من أزماته السياسية والاقتصادية والأمنية. فيجب عليهم سماعُها من فمكم، ومن الشعب الذي يرزحُ تحت أعباء الفقر والعوز، ومن فم الهيئات الاقتصادية التي تكشفُ الأخطارَ والتجاوزاتِ المُهدِّدة بالإنهيار التجاري والاقتصادي، ومن فم القيّمين والخبراءِ في الشأن المالي الذين يُنذِرون بأخطارِ الدَّينِ العام الذي يتفاقم بشكلٍ مُخيف يُهدّدُ بانكسار الدولة. أجل يجب أن يسمع المسؤولون السياسيون هذه الحقيقة. وليهبّوا جميعًا إلى تحرّكٍ وطنيٍّ واسعٍ داخليًا وإقليميًّا ودوليًّا للدفعِ إلى الواجهة هذه الحقيقة التي تُشكِّل “القضيّةَ اللبنانية”، التي، بنجاح، تجعلُ من لبنانَ عنصرَ استقرار وسلام في محيطهِ العربي التوّاق إلى التنوّع في الوحدة.
فخامة الرئيس، واصلوا قول الحقيقة الدستورية والوطنية، قويًّا بالحق وبمحبة لبنان، كيانًا وشعبًا ومؤسّسات.
6. أيُّها المسيح، كلمةُ الله المتجسّدة، بميلادك أخَذَتِ الحقيقةُ والمحبّة إسمًا في التاريخ هو أنت، يسوع المسيح. أنر بحقيقتك، حقيقةِ اللهِ والإنسانِ والتاريخ، كلَّ واحدٍ منّا وكلَّ مسؤول بيننا. أنتَ النورُ الحقيقيُّ الذي “يُنيرُ كلَّ إنسان، آتٍ إلى العالم”(يو1: 9). أنتَ الذي أشرقَ نورُك بالميلاد في ظلمات الليل، بدِّدْ بنور كلمتك ونعمتِك الظلمةَ من العقول والقلوب والضمائر. وساعدنا لكي نبدِّدَ كلَّ ظلمةِ شرٍّ وكذبٍ وحقد؛ كلَّ ظلمةِ فقرٍ وعوز، كلَّ ظلمةِ حربٍ وعنفٍ وإرهاب، كلَّ ظلمةِ كبرياءٍ وظلمٍ واستكبار.
إجمعنا يا ربُّ بالحقيقة والمحبة، وبروح الوحدة والتضامن، لك المجد والتسبيح، أيها الآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.