لفهم معنى ما أقوله، يقدم الباحث د. وود مقارنة بين الوثائق التي تتحدث عن الإمبراطور تيباريوس والوثائق التي تتحدث عن يسوع المسيح في إطار 150 عامًا من بعد موتهما. والنتيجة مدهشة حقًا. فعن الإمبراطور الروماني الكبير نجد 10 مراجع (من بينها العهد الجديد الذي يتحدث عنه). هل تعرفون كم عدد الوثائق التي تتحدث عن يسوع في الفترة عينها؟ – أكثر من 40 وثيقة مُكتشفة. نعم، قرأتم جيدًا: عن الإمبراطور الكبير 10 وثائق، عن ذلك اليهودي المجهول المولود في منطقة نائية من الإمبراطورية الرومانية تتحدث 40 وثيقة.
سبق وتحدثت في مقالات سالفة عن بعض الوثائق التي تتحدث عن يسوع. في هذه السلسلة لن يكون الاهتمام توثيقيًا بل الهدف هو التعرف على شخص يسوع المسيح، ولذا سأكتفي هنا بتبويب هذه المصادر وبتقييمها بشكل إجمالي.
– مؤلفات وثنية: من بين هذه المؤلفات “حوليات” تاشيتوس؛ “حياة الإمبراطور كلاوديوس” لـ زفيتونيوس؛ رسالة بلينيوس، حاكم بيتينيا، إلى الإمبراطور ترايانوس؛ مؤلف “موت بريغرينوس” الساخر للفكاهي لوشانوس دي ساموساتا وسواها. كل هذه المؤلفات تقدم لنا شهادة عن شخص اسمه يسوع، ولكنها تقدم تفاصيل قليلة عن هوية يسوع وأعماله. هي مؤلفات عدائية وساخرة عادة، وتتهجم على المسيح وعلى المسيحيين. ما هي قيمتها؟ هي أنها تقدم شهادة عن وجود يسوع على الصعيد التاريخي.
– المؤلفات اليهودية: هناك عدة مؤلفات يهودية تتحدث عن يسوع بشكل عدائي أيضَا. لكن الشهادتين الأهم تأتيان من مؤلف يوسيفوس المؤرخ اليهودي. إحدى هاتين الشهادتين هي شهادة مشهورة تُعرف باسم “شهادة يوسيفوس (فلافيانوس)” (Testimonium Flavianum). لعل هذه الشهادة من أثمن الشهادات القديمة جدًا على يسوع، لأنها تتضمن تفاصيل عدة غير موجودة وغير مذكورة في شهادات أخرى. ونظرًا لغناها شك (ولتضمنها نوع من شهادة إيمانية بيسوع المسيح) شكك بعض البحاثة بأصالتها، بينما قبلها البعض الآخر مع بعض التحفظ بشأن إضافات لاحقة واضحة. وقد أزال الشك اكتشاف تم في عام 1971، قام به باحث يهودي اسمه شلومو فنحاس من جامعة القدس العبرية. فقد اكتشف مخطوطًا عربيًا يعود إلى القرن الحادي عشر ويتضمن الشهادة دون الإضافات.
– مؤلفات غنوصية ومسيحية: نحن بصدد سلسلة من المخطوطات المنحولة، وهي بدورها تقسم إلى جزئين: فهناك المؤلفات التقوية، التي رغم طابعها الخيالي والمبالغ فيه، إلا أنها لا تتضمن هرطقات لاهوتية. أم الجزء الثاني فيتألف من الكتابات الغنوصية التي تسبغ على قصة يسوع طابعًا إيديولوجيًا ومُسيّرًا. رغم أن هذه النصوص تتضمن كمية كبيرة من الأخبار والأقوال، وسواها، إلا أن هناك شبه إجماع على أن نوعيتها غير لائقة وذلك يعود إما لأنها بعيدة جدًا عن حقبة يسوع الزمنية، وإما لأنها تتضمن تعاليمًا غريبة لا تمت إلى عهد يسوع وروحه بصلة. عن هذه الكتابات يقول أوريجانوس، علامة المسيحية الأولى: “الكنيسة لديها أناجيل أربعة، الهرطقة لديها الكثير من الأناجيل”.
ما كانت المعايير التي استعملتها الكنيسة في تمييز الكتابات الصالحة والقانونية من الكتابات الطالحة والمنحولة؟ المعايير كانت ثلاثة إجمالاً:
أولاً، القِدم: أي قرب المؤلف من الحقبة الزمنية للحدث.
ثانيًا، الإيمان القويم: أي تعبير هذه الكتابات عن مضمون الإيمان الذي كان معاشًا منذ بدء الكرازة المسيحية.
ثالثًا، القبول الجامع: أي قبول مختلف الكنائس لسلطان هذه الكتابات.
تحدثنا في هذه المقالة عن الوثائق التي تشهد لوجود يسوع، ولكن ما هي الوثائق التي لا تشهد فقط لوجوده بل تخبرنا عن حقيقته؟ سيكون هذا موضوع المرة المقبلة.