عند ولادة طفلٍ ما في العائلة الفلانيّة مثلا، فإنـّه من المؤكّد أنه سيخلقُ الفرحة والتعجّب والانجذاب اليه، حتى وإن كان، في بداية حياته ووجوده لا يتكلم، لكنْ ثبتَ – وهذا ما أكّده علماءُ نفس الطفل – إنَّ الطفل منذُ شهره الرابع او أقلّ من هذا، يسمعُ ما يدور مِنْ حوله، من أصواتٍ وموسيقى، وهو في بطنِ أمه، هو يسمعُ لكن لا يتكلم.
لكن عندما ينمو هذا الطفلُ ويصيرُ صبيًّا، فإنَّ الكثير من الأمور تتوضّح أمامه، لكن في نقصٍ أو نقدر أن نقول كظلٍّ، لا يفهم ويعي الكثير مما حوله، إلاّ كظُليلٍ بسيط، ولا يكون واعيا من هو، ومن أين أتى، والى أين يمضى، وكيف أتى الى الوجود…
وكلّ هذه الأمور، بصريح العبارة، لا يعرفُ ذاته. تدريجيًّا سيُصبح مراهقا، وهنا تبدأ صراعاته الكثيرة مع الأهل أولا، ثم مع الأقارب والاصدقاء ثانيا، ومن ثمّ المجتمع الذي سيهجمُ عليه، سيقع في الأوهام وأحلام اليقظة، والآم ومنغّصات وكبت، واستلابات ويأس وقلق وتعب، ولسعاتٍ كثيرة تلدغه. وهنا سيقع في العزلة الكارثيّة وسيشعر بأنّه وحده في الحياة، ولا أحدا في هذه الدنيا يمدّ له يدَ العون، سيغوصُ في الصحراء، صحراءَ الكآبةِ والفراغ، لماذا؟ لان مسؤوليّة حياته ستدقُّ بابَ العُزلة، وتقول لها: أنا سأساعدك قليلا، وهنا سيقعُ المراهق في دوّامةٍ تشلّه وتوقعَه في الغيبوبة، دوّامة المسؤوليّة – الحريّة – العزلة. كيفَ يكونُ حرّا ومسؤولا في ذات الوقت.
في الوقت الذي يقدر أن يميّز ويجمع بين الحرية والمسؤولية، ويعالج عزلته بنفسه، سيصلُ الى أن يعرف ذاته، ووجوده، ويفهم من أين أتى ولماذا.. وماذا يريد، سيكون واعيا للحياة، وأن (ابيه وامه)، هم أناسٌ بسطاء عاديين جدا، بعد أن كان يتصورهم كالمارد الكبير المخيف، اصحاب الأوامر والنواهي والنصائح، سيولد الى حياة جديدة، ونستطيع ان نقول ان الالام والصراعات والعزلة، هي من خَلقتهُ وولّدته. طبّقوا هذا الشيء على عبور الشعب العبراني ارض الميعاد، فالتشبيه لطيفٌ ولاهوتيّ رائع.
الطفل هو هذا الشعب العبراني، الى ان كبر وفهم معنى وجوده، ومعنى حب الله الأبوي له، وكل الالام والمنغصات ولسعات الحيات والكفر، الى أن عبر البحر الأحمر (بحر الحدود القصوى)، الذي هو (ماء الرحم) الذي خرج الطفل منه بعد أن كان في بطن الصحراء يعيش من ماء ومشيمة الله (عذرا على الوصف). ارض الميعاد هي اللقاء مع الآخر ومع العالم _ عالم الانسان والمجتمع وعالم الله الجديد. هذا التحرير – الخروج الخلاصي، هو “خلق“, بعد كل هذا نقدر أن نقول، كتب سفر التكوين.
فتحرير الشعب العبراني الذي كان، شعبا متضعضعًا، وصل بعد مدّةٍ طويلة بالنسبة لنا، لكن بالنسبة لله هي لا ذكر لها، لان مدّة (40 يوما) هي مدة رمزية بالتأكيد، ولا وجود لها في الواقع التاريخي المحض، ولا داعٍ لمناقشة ومجادلة المؤرخين والعقلانيين فيها، لأننا سنخرج بلا نتيجة، الأربعون يوما الطويلة، هي دلالة على ان الوصول الى اللقاء مع الله طويلة وصعبة وشاقة جدا.
في هذا الصدد، نجدُ تلميحا بسيطا يذكره الاب سليم بسترس في كتابه (اللاهوت المسيحي والانسان المعاصر): “الكتاب المقدس، ليس كتابا علميا يهدف الى وصف كيفية تكوين الكون، ولا كتابا تاريخيا بالمعنى الحديث للكلمة، يروي بالتدقيق سيرة البشر منذ ظهور أول إنسان على الأرض (…) فالفصول الاحد عشر الأولى من سفر التكوين، هي مجموعة أساطير استقاها الشعب اليهودي من أدب الشعوب المجاورة، ولا سيّما الأدب البابلي، وما قصده في روايتها إلا إظهار علاقة شعوب العالم اجمع وارتباط الكائنات جميعها بالاله الواحد..”. ومن الجهة الأخرى، يعلق اللاهوتي فرنسوا فاريون اليسوعي هذا التعليق الجميل، أنه يجب قراءة الكتاب المقدس، لا انطلاقا من أوله، بل انطلاقا من الاختبار الذي كان في نشأة الكتاب المقدس والذي هو اختبار شعب اسرائيل. ويضيف، إني أشدّد: الاختبار، والحقيقي، والملموس، والواقعي بخلاف التصوّري والمجرّد، القيام باختبار تفاحةٍ هو اكلها، لا وصفها بالكلمات.
يتبع