عقد أساقفة الكاثوليك في العالم مع قداسة البابا بنِديكتوس السادس عشر في العام 2011 مجمعًا خاصًا من أجل كنائس الكاثوليك في الشرق الأوسط. وقد قدّموا للمسيحيين الإرشاد الرسولي بعنوان:” الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة” (14- 9- 2012). أين نحن من هذا الإرشاد؟ ماذا فعلنا لتطبيقه؟ هل ساعدَنا على بدء مرحلة جديدة ومتجددة، أم بقي مجرّد أفكار ومقترحات؟ زار البابا لبنان ليقدّم لنا الإرشاد، ومعه حمل لنا روح الأنجلة الجديدة من خلال مشاركته لنا الإيمان والرجاء والمحبّة. أراد أن يكرّس وجودنا ودورنا في هذه المنطقة. ذكّرنا برسالتنا الفريدة والبالغة الأهميّة للشرق. فالإرشاد لم يغمرنا كفاية، لذا كان لا بدّ للأنجلة الجديدة كي تُعيد إحياء روح الإرشاد الرسولي، فتؤكّد على أهمية التعلّق بالإيمان من أجل تخطّي أكبر عدد من الصعوبات والتحدّيات بتحقيق ما وعدنا به السيّد المسيح. أعلن البابا بنديكتوس السادس عشر سنة الإيمان، فهل تعمّقنا بإيماننا وعشنا بحسب تعاليم السيّد المسيح أم كان حدثًا عابراً؟ “الويل لي إن كنتُ لا أبشّر” ( 1 كور 9: 16).
الأنجلة هي نقل[1] الإيمان والحياة المسيحيّة من خلال نقل الكتب المقدّسة وعيشها وتطبيقها، وبخاصة الكتاب المقدّس، لأنّها تعرّف بيسوع المسيح وتتحدّث عنه وعن تعاليمه ووصاياه وعجائبه. فهي، أي الأنجلة أو التبشير معرفة يسوع المسيح واللقاء به. إنّ وسائل الأنجلة هي: الكرازة، والتعليم، والليتورجيا، والحياة الأسرارية، والشهادة، والهدف منها التربية على الإيمان كي نغدو أبناء لله، من خلال الالتزام بكلام السيّد المسيح والانتماء إلى جسد المسيح السرّي.
الأنجلة الجديدة هي التذكير بإعادة قراءة الإنجيل بالعمق وذلك بنهجٍ جديد وأساليب متطوّرة تعبّر عن حماس رسولي، والطرائق الجديدة التي يجب أن تستعملها الكنيسة في فهم وعيش الإنجيل ونشره، ممّا يُسهم في تدعيم مواجهة التغيرات الجذريّة في العالم والتحديات العديدة والكبيرة.
تقوم الأنجلة الجديدة على العمل الروحي العميق والمستمر ببثّ الإيمان والتقوى والمحبّة والغفران ضمن الجماعات المسيحيّة من أجل السير نحو القداسة. من هنا كان لا بدّ للجماعات المسيحيّة، من خلال الكنائس، أن تتّحد فيما بينها شاهدة للإيمان والرجاء والمحبّة من خلال أعمال الرحمة وعيش الإنجيل وتطبيقه لمواجهة التحديات التي تفرضها العولمة ومتطلّبات الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بوجه الإيمان المسيحي. “دعوة لروح الله كي يقود المسيحيين المشرقيين إلى توطيد الشركة أكثر فيما بينهم”، “وكي تكون المحبّة التي يعيشون عضدًا منيعًا لأمانة الجميع وإيمانهم”[2].
يقوم دور الكنيسة مع سائر الجماعات المسيحيّة، على العودة إلى الجذور والينابيع أي العودة المطلقة إلى السيّد المسيح وتعاليمه واللقاء به، من خلال الإيمان “المُعاش” والمتجسّد في إيجاد الحلول للصعوبات وفهم الواقع من خلال استلهام الروح القدس الذي يهبه السيّد المسيح للجماعات المسيحيّة، من أجل إعلان الإنجيل بطرق متنوّعة وأساليب متجدّدة، من شأنها أن تلبّي حاجات المؤمنين وتُرضي تساؤلاتهم، كما تخاطب متطلّبات العصر والثقافات المتنوعة. من هنا لا بدّ من عيش الشركة والشهادة. ” تعطي الشركة الشهادة قوّة وتناغمًا وتتطلّب توبة دائمة. في هذا تكمل الشركة والتي بدورها توطد الشهادة. فلا توجد شهادة بدون شركة: إنّ الشهادة الوحيدة والحقيقية هي حياة الشركة”[3].
الأنجلة الجديدة التي تحتاجها كنائس الشرق الأوسط، اليوم أكثر من أي وقت مضى، هي إعادة الجرأة عند المسيحيين على عدم التراجع في خياراتهم حول عيش الإنجيل، والعمل على البحث بطريقة إيجابية عن كلّ السبل للانفتاح على الله من خلال حوار معه واللقاء به شخصيًّا ونقل خبراتهم الإيمانيّة واختيارهم للحياة المسيحيّة التي تحمل الرجاء والفرح إلى شركائهم في الأوطان لا سيّما الذين لا يشاطرونهم الإيمان والعقيدة. إنّ مسيحيي الشرق الأوسط يحملون رسالة الشهادة. “تغذّي الشركة والشهادة للمسيح وتثبتان أصالة الأعمال الأخرى للعبادة الإلهيّة وممارسة التقوى في التدين الشعبي. الرسوخ في الحياة الروحية ينمّي المحبّة ويدفع باتّجاه الشهادة. المسيحي قبل كلّ شيء شاهد. والشهادة لا تتطلّب فقط تنشئة مسيحيّة ملائمة لفهم حقائق الإيمان. بل تنشد أيضًا حياة متوافقة مع هذا الإيمان نفسه للردّ على متطلبات أناس زمننا”[4].
يؤكّد مسيحيو الشرق الأوسط قناعتهم بالأنجلة الجديدة التي تعزّز مواقفهم الجريئة والقدرة على مواكبة التحوّلات الجديدة على جميع المستويات، لا سيّما العلمنة شبه الملحدة التي تقود بعض المؤمنين إلى التفلّت من كلّ القواعد الروحيّة والأخلاقيّة. من هنا لا بدّ للأنجلة الجديدة أن تساعد على إعادة اكتشاف فرح الإيمان المسيحي واستعادة المحبّة وتجديد قدرة حريّة الأبناء في البحث عن الحقيقة. بإمكان الأنجلة الجديدة، أن تطال الأمكنة والمساحات التي ابتعدت عن المخلّص وإنجيله، فهي تسعى إلى إيجاد الأساليب المتاحة لإحيائها وبلورة ديناميتّها.
تدعو الأنجلة الجديدة المسيحيين إلى حسن استعمال جميع الوسائل من أجل حياة كريمة، نذكر منها: الإعلام، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية والأخلاقيّة، والأبحاث العلميّة والحياة السياسيّة وحوار الأديان والثقافات، وممارسة العدالة والسلام والديمقراطيّة، واحترام حقوق الإنسان. فالأنجلة الجديدة هي مَدْ تلك ال
قطاعات والمبادئ بنور كلمة الإنجيل الذي يحقّق الخلاص ويثبت ملكوت الله الذي أعلنه السيّد المسيح وبدأ معه المسار الخلاصيّ. لذلك لا بدّ مع الأنجلة الجديدة، أن يدرك المسيحيون رسالتهم والعمل من جديد على اعتماد الإنجيل بحماس وقناعة، متجاوزين كلّ الصعاب بتوسيع الآفاق، وبذهنية متجدّدة، والانفتاح على الآخرين، ورفض الواقع المؤلم، مع السعي إلى التغيير، ورفض الرتابة والإقدام على التطوّر على جميع الأصعدة، لا سيّما الحياة الروحيّة التي تنمّ عن الإيمان والتعلّق بالسيّد المسيح. تدعو الأنجلة الجديدة أبناء الكنيسة إلى الانخراط في العمل الراعوي الذي يحاكي متطلّبات المؤمنين وحاجاتهم للسعي إلى بناء إيمانٍ قوي وفَرِح.
[1] – ” إنّ نقل الإيمان المسيحي هو رسالة جوهرية للكنيسة “، بنديكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، عدد 85.
– ” إنّ كلّ من الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط… مدعوّة أيضًا لتجدّد روحها التبشيرية”، المرجع السابق، عدد 89.
[2] بنديكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، عدد 98 و99.
[3] المرجع السابق، عدد 37.
[4] المرجع السابق، عدد 67.