تمهيد
استذكر العالم منذ سنوات نظريّة مدير معهد الدّراسات السّتراتيجيّة في جامعة هارفرد صموئيل هانتغتون (S. Huntington) عن “صراع الحضارات”، وهي تؤكّد أنّ للدّيانات دورا أساسيّا في السّياسة العالميّة؛ وهذه الدّيانات بحسب هانتغتون لا تتّجه البتّة نحو الاتّحاد، بل تتمتّع بطاقة خلافيّة قويّة.
نحن بالطّبع لا نؤيّد هانتغتون بنظريّته الصّراعيّة؛ وإن صحّ اعتقاده بصراع الحضارات فالحلّ هو العمل الدّائم على التقاء الدّيانات. وقد قال الكاتب الفرنسي أندريه مالرو André Malraux في الثّمانينات “إنّ القرن الواحد والعشرين سيكون دينيّا بامتياز”. ممّا يدفع اليوم القيّمين والمهتمّين بالشّؤون الدّينيّة في العالم إلى إعادة القراءة، والتّفكير، والتّعمّق بالمسائل الدّينيّة بغية إيجاد مقاربات جديدة نقدّمها لأنفسنا وللعالم بلغة عصريّة مقنعة.
1- المسألة الدّينيّة بين الوحي والانتماء
الدّين بادئ ذي بدء هو وحي وإلهام وكشف للذّات الإلهيّة عبر الأنبياء والمرسلين. هذا في بعده العموديّ، أمّا من حيث بعده الأفقيّ، فهو كما يحدّده أحد الباحثين إلتزام عقيديّ يرتكز إلى المعرفة، وعقيدة التزام منفتحة على امتداد المحاولات الفكريّة والرّوحيّة… إنّ المشكلة ليست إشكاليّة المضمون الدّينيّ في الإيمان، بل هي أحيانا كثيرة، مشكلة الحالة النّفسيّة المنغلقة، الغارقة في الضّباب، والتي تختزن الحقد الذي تحوّله إلى مقدّس عند الإنسان وفي الحياة[1].
كما أنّ الانتماء الدّينيّ الحقّ، هو انتماء إلى ثقافة تفتّش عن الله والإنسان معا في جميع الثّقافات، هذا ما يبلغ بنا إلى حوار الأديان والثّقافات، بما تحمله من غنى يخدم السّلام المنشود، بدلا من الخلافات والنّزاعات والعنف والحروب[2].
ففي التّوراة والكتاب المقدّس لا تحديد لكلمة دين، إلاّ أنّها تُذكر في بعض الآيات بمعنى الحكم أو الدّينونة. أمّا التّعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ فيصفه بالتّوق إلى الله[3].
يطلق أبو هلال العسكريّ[4]، تعريفا للدّين كمذهب يعتقد الإنسان أنّه يقرّبه إلى الله، وإن لم يكن فيه شرائع. وقد قال أبو عبيدة[5]: “إنّ معنى الدّين هو الحساب والجزاء”. بيد أنّ مختلف التّيارات الفكريّة الإسلاميّة اعتبرت أركان الدّين ثلاثة: الإعتقاد بالجنّة والشّعائر التّعبديّة والعمل بالأركان. وهذه الأخيرة بحسب أبو الحسن العامريّ[6] هي الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر أي الحدود[7].
وربّما أجمل تحديد نجده للدّين على الإطلاق هو ما ذكره الإمام محمّد بن علي الباقر[8] “الدّين هو الحبّ، والحبّ هو الدّين”[9].
[1] راجع، الإيمان بين الثّقافة والعقيدة والسّلطة هل من رؤى؟ وفي لبنان؟! وقائع المؤتمر الخامس والثّلاثين، في سلسلة الشّأن العام في قضايا النّاس حاجات وأبحاث، تخطيط واستشراف، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، لبنان، 2003، ص. 23.
[2] المرجع نفسه، ص. 40.
[3] راجع، التّعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ للشّبيبة، منشورات مكتب الشّبيبة البطريركيّ، بكركي – لبنان، بيروت، 2012، رقم، 3.
[4] هو أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكريّ ( ….. – بعد 395هـ ؛ 1005م). فارسيّ الأصل، لغويّ وناثر وشاعر.
[5] ولد في البصرة حوالي سنة 110هـ. هو من أئمة العلم بالأدب واللغة، ترك نحو 200 مؤلف، مات حوالي سنة 209 هـ .
[6] هو أبو الحسن محمد بن أبي ذر يوسف العامريّ النّيسابوريّ له مؤلّفات عديدة في علم العقيدة والأديان وشرح القرآن. ولد في مطلع القرن الرّابع الهجريّ ومات حوالي سنة 381 هـ.
[7] راجع، رضوان السّيّد، “الدّين والدّنيا”، في الدين والدّنيا في المسيحيّة والإسلام، أعمال الحلقة الصّيفيّة الأولى، جامعة البلمند، 1996، ص. 27-30.
[8] محمّد الباقر (57 هـ / 979م – 114 هـ / 732م) ويكنّى بأبي جعفر من كبار علماء الإسلام، له عدة أحاديث في الصّحيحين وهما من كتب الحديث عند أهل السّنة، وهو الإمام الخامس عند الشّيعة الإماميّة (الإثنا عشريّة) و(الإسمعاليّة).
[9] راجع، عبد الجبّار الرّفاعي، تحرير الدّين من الكراهيّة، وقائع المؤتمر السّابع والثّلاثين، حول “حروب الأديان وسلامها، إشكاليّة صورة الله”، في سلسلة الشّأن العامّ في قضايا النّاس، حاجات وأبحاث، تخطيط واستراف، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، زوق مكايل- لبنان، 2004، ص 77.