ففي أغنية «البيت بيتك فوت يا جوعان» يعلن فيها وديع دعوة البيت في الثقافة اللبنانيّة، أنّه جزء أساسيّ من ثقافة المحبّة من إنسانيّة الإنسان، تشع من دفئه أنوار الحب، فتنشر بأشعتها قيم الثبات والوفاء والأمانة، وإحترام كرامة الشخص، ولاسيّما لمن هم أكثر فقراً، وكأنّ بوديع ، ينقل بطريقته العبقريةّ قيم الإنجيل وقيم العائلة، في إطار دافء وحميم(راجع متى25) يحثّ السامع في قبول الضعيف والشرّيد والمسكين، بفتح بيته لهم. ضمن هذا السياق يكون الفنان الصافي، قد حقّق من جهة، الرسالة الحقيقية للفن التي تنادي دوماً وأبداً بدعم قضيّة الإنسان ولاسيّما الفقراء، وإعلاء شأنها في الأعمال الفنيّة، لتكون تلك الأعمال أداة تبشير تربّي وتثقّف السامع، على قيم التضامن والإخاء. لأن البيت الذي يحنو على الفقراء، لا يخلو أبداً من بركة الله ونعمه، ففي أغنيته «يا مرتي شعلي هالنار» يتغنّى الصافي في الغلّة التي هي بركة الله الخاصّة لكل بيت تكون فيه محبّة الله، لأنّه يجسد بشكل مرئيّ ومحسوس « دار الحب والبسمات… يا رب تحميها من الضربات».
أمّا نظرة الراحل الصافي، في مسألة الهجرة والحرب والتهجير، كانت شغله الشاغل. فها هو ينشد متألماً بحسرة وتأوّه تركه البيت والضيعة، فتسمعه متألماً في أغنية «بيتنا المهجور» حيث يسترجع حنين الذكريات البريئة والصافيّة في بيت تربى فيه على الحبّ والوفاء. وبسبب الحرب، فقد «غطّت العشبات درجاتو بيتنا المهجور شباكنا على البعد، نغلق بالزور، من سنين ما مرقنا وسنين ما زرناه…». ومن ثم، ترى الصافي، يدعو المهاجرين بالعودة الى الوطن من خلال أغنية «يا مهاجرين رجعو تراب الوطن غالي»[1]، لأنه كان يريد أن ينقل خبرة ثقافة البيت اللبناني الى كل مهاجر، ألاّ يفتقد هذا الأخير هويته وإنتماؤه الى وطنه، لأن لبنان هو «المرقد المحسود»[2]، و«سطوح ضيعتنا الحلياني» هي المكان الطبيعي الذي منه تُشاهد «الجنات ع مدّ النظر»[3] فنتنشّق «هوا الوديان»[4] الصافي والنقيّ، فتدبّ في الفؤاد العودة الدائمة الى الحنين الأوّل، أي الى الجذور الى عهد البراءة عهد الطفولة، والى ساحة كنيسة الرعيّة، الى الكرم، والتعاون… وهنا يستحضر المهاجر قيم الماضي في واقعه المعيش، ويأخذها معه خميرة تخمّر حياته بتراث البيت اللبناني العريق، فعلى المهاجر أن لا ينسى أننا جميعنا « من هون من قصة عمر من بسمة الإيام للإيام… من بسملى بوج الصبح تنقال… من ألف وإيد وإيد عم تدعي» للرب أن يباركها ويبارك بيوتها وقراها.
وإزاء المصائب والنوائب، يلقى على العائلة بحسب الراحل وديع، واجب ضميريّ، أن تصمد في وجه الطغيان وتعتصم بالله وبروابط الألفة والود بين مكونات الوطن، فتتحقّق صموداً في وجه الأخطار والتحدّيات «الله معك يا بيت صامد بالجنوب»[5] ليصير كل بيت بحسب وديع على غرار بيت الجنوب، حيث فيه يتربّى الإنسان على الوفا والإخلاص لله وللآخر. فمهما أصاب البيت اللبنانيّ من دمار«بيرجع بيتعمر منعمرو بمرجان منعمرو بإيمان…» لأنّ معلم العمار جاهز لــ«يعمر حارتنا… تتعمر دنيتنا» وذلك بفضل سهر الرب وعناية «جيش بلادي يا حارس هالبيت» والروح البيتية التي تميّز مجتمعنا وشرقنا المنقسم، بإمكانها أن توحّد ما هدمته الحرب، ولاسيّما في البلدان التي تشهد صراعات دامية بين أهل البيت الواحد.
خاتمة
لا شكّ نحن أمام حالة فريدة من نوعها، أمام شخصيّة نادرة الوجود كانت مصدر إشعاع ولا تزال في عالم الفن المعاصر. عرفت كيف تؤالف وتدمج قيم الحياة المسيحيّة في اللحن والشعر والصوت، كأنه زواج مارونيّ أقامه وديع، بين صوته ولحنه مع قيم الزواج المسيحيّ. فصار هذا الزواج مصدر إلهام وتأثير على الشعراء الذين عاصروا وواكبوا الملحن الصافي في مسيرته الفنيّة والإيمانيّة، فكتبوا له أجمل القصائد عن الحبّ والعائلة وقيمها، عن التربية والبيت، وكأنّ بالراحل المرحوم وديع، عرف كيف يسخّر القلم والشعر واللحن والصوت والإبداع، في خدمة الله والعائلة. وما أعمال العبقري الصافي، أنّها تحثّ الشعراء والفنانين في عالمنا المعاصر ولاسيّما المسيحيين منهم، أن يقوموا بخطوات مسؤولة وجريئة، من خلال التبشير بجمالية الحبّ الزوجيّ وقيمه ورسالته الإنسانيّة والروحية والثقافية في أعمالهم الفنيّة، كما عاشه وشهد له بإمتياز الفنان الصافي وديع الصافي.
[1] – كلمات الشاعر: أسعد سابا، ألحان: وديع الصافي.
[2] – كلمات الشاعر: أنطوان عيد، ألحانك وديع الصافي.
[3] – كلمات الشاعر: عبد الجليل وهبي، ألحان: وديع الصافي، 18/ 4/ 1964.
[4] – كلمات الشاعر: مصطفى محمود، ألحان: وديع الصاغي.
[5] – كلمات الشاعر: أسعد سابا، ألحان وديع الصافي، 17/ 6/ 1970.