** صدق الحكيم الذي قال: “لا تُصدِّق كل ما يُقال”. لهذا اجعل عقلك رقيبًا على أُذنيك، وافحص كل ما تسمعه. ولا تُصدِّق كل خبر، لئلا تُعطي مجالا للمنافقين والكاذبين، ولِمَن يخترعون القصص هدفها مصالحهم الشخصية ، ولِمَن يؤلِّفون الأخبار،ولِمَن يدسُّون ويشهدون شهادة زور، كل هؤلاء يبحثون عن إنسان سهل يُصدِّقهم.
** نعم لو كُنَّا نعيش في عالم مثالي، أو في وسط الملائكة، لأمكنك حينئذ أن تُصدِّق كل ما تسمعه، ولا تتعب ذاتك في فحص الأحاديث ولكن ما دام الكذب موجودًا في العالم، وما دمنا نعيش في مُجتمع توجد فيه ألوان من الناس يختلفون في نوع أخلاقياتهم، وفي مدى تمسكهم بالفضيلة، فإنَّ الحكمة تقتضي إذن أن نُدقِّق ونُحقِّق قبل أن نُصدِّق، وأن نفحص كل شيء ونتمسَّك بما هو حق.
** ولكن قد يقول أحدهم: “إنني أُصدِّق هذا الخبر على الرغم من غرابته، لأنني سمعته من إنسان صادق لا يمكن أن يكذب”.
** نعم، قد يكون هذا الإنسان صادقًا، ولكنه سمع الخبر من مصدر غير صادق، أو من مصدر غير دقيق… أو قد يكون الشخص الذي حدَّثك أو نقل الخبر إلى مَن حدَّثك، جاهلا بحقيقة الأمر، أو على غير معرفة وثيقة أكيدة بما يقول… أو قد يكون مبالغًا أو مازحًا أو مداعبًا. أو رُبَّما يكون قد أخطأ في السماع أو الفهم. أو أن المصادر التي استقى منها معلوماته غير سليمة…
** أو رُبَّما يكون المصدر الأصلي الذي أخذ عنه هذا وذاك غير خالص النية فيما يقول. وهناك أسباب شخصية تدفعه إلى طمس الحقائق، أو إلى الدَّس والإيقاع بين الناس. أو قد يكون من النوع الذي يتباهى بمعرفة الأخبار والسبق إلى نشرها بين الناس. فيقول ما يصل إليه بسرعة بدون تحقيق… وقد يكون مُحبًَّا للاستطلاع، يلقي الخبر ليعرف ما مدى وقعه على الناس.
** ولكن رُبَّما يقول القائل: “إني لم أسمع هذا الخبر من فرد واحد فقط، إنَّما من كثيرين، مما يجزم بصحته”.
** إنه لا يصح أن نحكم عن طريق السماع دون تحقيق، حتى لو سمعنا من كثيرين! فما أكثر ما يكون كلام الكثيرين على وفرة عددهم، له مصدر واحد مخطئ… وما أكثر مما تتفق جماعة كبيرة من الناس على كذب مشترك، وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن هذا الأمر. وما أكثر ما تتفق مجموعة من شهود الزور على أمر ما، وهكذا تفعل أيضًا مجموعات من ناشري الشائعات…
** إنَّ وصية “لا تشهد بالزور” كما أنها موجهة إلى المُتكلِّم، هي أيضًا موجهة إلى السامع. فالذي يسمع الكذب ويقبله، إنَّما يُشجِّع الكاذب على الاستمرار في كذبه. وبقبوله، يحيط نفسه بأُناس مخطئين غير مخلصين.
** ناقل الكذب يُعتبر كاذبًا، وشريكًا في نشر الكذب. وقد يقع تحت هذا العنوان أيضًا مروجو الشائعات الكاذبة. بل قد يقع في هذا الفخ، البسطاء الذي يُصدِّقون كل ما يسمعونه! ويتكلَّمون عنه. كأنه حقيقة، دون فحص أو تدقيق. وفي الحقيقة لا نستطيع أن نُسمِّي مثل هذه بساطة. لأنَّ البساطة في جوهرها هى عدم التعقيد، وليس قلة الفهم أو البعد عن الحكمة والتدقيق. ونحن نؤمن بالبساطة الحكيمة، وبالحكمة البسيطة…
** اثنان يشتركان في خطية الكذب: قابل الكذب، وناقل الكذب. وكلاهما يشتركان مع الكاذب الأصلي في نشر كذبه.
** إن كانت بعض المشاكل تتسبَّب أحيانًا من نقل الكلام، فإن أقل الناس ضررًا مَن ينقلون الكلام هو، كما يفعل جهاز تسجيل الصوت (الريكوردر) recorder الأمين المُخلص، الذي لا يزيد شيئًا على ما قيل، ولا ينقص، بل يُعطي صورة دقيقة صادقة عمَّا قيل.
** بعض الأشخاص قد يسمع كلامًا، فيتناوله ويضيف عليه رأيه الخاص ومفهومه الخاص، واستنتاجه وأغراضه وظنونه، ويُقدِّم كل ذلك معًا لإنسان آخر، كأنه الكلام المُباشر الذي سمعه مِمَّن نطق به!!
انظروا يا إخوتي ماء النيل وقت الفيضان، وهو بني اللون من كثرة ما حمل من طمي… هذا الماء كان في أصله ماءً نقيًَّا صافيًا رائقًا عندما نزل مطرًا من السماء على جبال الحبشة. ولكنه طوال رحلته في الطريق، كان ينحت الطمي من الصخور، ويختلط بالطين حتى وصل إلينا في الفيضان بصورته وهو بُني اللون طيني…
** كثير من الأخبار التي تصل إليك مُشبَّعة بالطين، رُبَّما كانت رائقة صافية في بادئ الأمر. والفرق بينها وبين ماء النيل، أن طينه مُفيد للأرض. أمَّا الطين الذي خلطه الناس في نقلهم للأحاديث، فإنه ضار وخطر ومُفسد للعلاقات…
** كثير من الأخبار عندما تصل إليك، تكون أخبار مختلفة جدًا عن الواقع. لذلك أقول مرَّة أخرى: لا تُصدِّق كل ما يُقال. بل حقِّق ودقِّق، قبل أن تُصدِّق.