النشيد الذي لا يُجلس فيه

كلمة الإيكونومس الياس شتوي: نشيد الأكاثستُس مديح والدة الإله

Share this Entry

مديحُ والدة الإله “الأكاثستُس” – الذي لا يُجلس فيه – هو الأثر الوحيد الذي وصلنا عن الصيغة القديمة للنمطِ الموسيقيّ المسمّى بالقُنداق Κοντάκιον. يعود القُنداق بجذوره إلى التقليد الهيمنوغرافيّ السُريانيّ الذي وضعه القديسُ أفرام مَلفان البيعة التّي لاقت مؤلّفاتُه رواجًا كبيرًا ، فقد كان الشعبُ المسيحيّ يترنّم بها في الكنيسة كما في السوق أيضًا!

يشير كتاب المراسم في كنيسة القسطنطينيّة ( التيبيكون) إلى تَلاوة القنداق في ختام السهرانيّة التي كانت تقام في الكنيسة العظمى آيّا صوفيّا. وكان يُؤدّيه المرنّم من على المنبر على شكل أبياتٍ أو آياتٍ يتلوها بترنيم خفيف تتخلّلها اللازمة التي ينشدها الشعب.

يعتمد القنداق على نظام شعريّ بسيط تُستخدَم فيه بمرونة أبياتُ شعرٍ قصيرة، رُباعيّةُ أو مُثمَّنةُ الوزن، يتصدّرُه مقطعٌ موسيقيٌّ خاصٌ، يتبعه عدد من المقاطع ثم ينتهي بلازمة ختاميّة ذات نمط موسيقيّ مغاير.

لا شكّ في أنّ نَظمَ الأكاثستُس ارتبط بحادثة إنقاذ المدينة المالكة من حصارٍ – أو حصارات متعدّدة – بفضل تدخّل إلهيّ! لكنّ النشيدَ يتخطّى هذا الإطارَ التاريخيّ ليبدوَ تأمّلاً شعريًّا في حدث البشارة المرتبط ارتباطًا وثيقًا منذ بدايات الرزنامة الطقسيّة بعيد الفصح.

تتميّز الأبيات المفردة بصناعة شعريّة عالية غنيّة بالصور والاستعارات‍ ! لكن الأبياتِ المزدوجةَ هي التي تشكّل البنية اللاهوتيّة للنشيد إذ تُعيد صياغةَ الأحداث الواردة في الإنجيل. فتذكرُ اندهاشَ العذراءِ من بشارة الملاك ، وحلولَ الروحِ عليها لكي تحبَل، وتصوّر لنا كيف تخطّى يوسفُ أخيرًا عاصفةَ الشكوك، وكيف جاء المجوس يبحثون عن الملك القدير وثمّ عادوا إلى بلادهم لابسين الله، وكيف تمّ اللقاءُ في الهيكل مع سمعان. وتتحوّل الأبياتُ المزدوجة إلى نوافذَ تحثُّنا على التوبة متأمّلين في سرّ التجسّد وفي محبّة الله التي لا يُدرَك غورُها! وتدعو المؤمنَ إلى التفاعل شخصيًّا مع هذه المبادرة الإلهيّة وأن يحقّق في ذاته نَعَمَ مريم التي أعطت كلّيّتها لله فأضحت إيقونة البشريّة المؤمنة! ويكشف لنا تعجّبُ الملائكة من التنازل الإلهيّ سموَّ دعوةِ البشر على تلك التي للقوّات العلويّة. وينكشف لنا معنى التجسّد: الكلمة جاء يبحث في الهاوية عن الصورة الساقطة ليرمّمَها ويعيدَها إلى المثال القديم!

تُعالج الأبياتُ المفردة ببراعة شعريّة وبانتظام بعضَ المواضيع المتكررة. إنّها تُظهر لنا العذراءَ مريم كأداةٍ استعانَ بها الله لإجراء الخلاص. ويَبرز خصوصًا دورُ مريم كوسيطةٍ بين الله والبشر (فهي الجسر والسلّم). وتعيد والدة الإله بطاعتها ونقاوتها الوصالَ بين الله والبشر، إذ بها دخل عالمهم وصار واحدًا مثلهم.

حول هذه الحقيقة يدور كلّ النشيد. لـمّا أصبحت مريم “حوّاء الجديدة” بميلادها “آدم الجديد” أتاحت لنا العودةَ إلى الفردوس. فحواء الأمّ الأولى خدعتها الحيّة فولدت الموت. أما الثانيةُ فهي أمُّ الحياةِ الجديدة، المخصِبةِ بالروح، تبسط أمام البشر محاسنَ الفردوس حيث الصداقة مع الله. تحلّ والدةُ الإله مكانَ الأمّ الأولى التي بدل أن توردَنا إلى شجرة الحياة أوردتنا إلى السقوط. في حوّاءَ الجديدةِ تُستعادُ البشريّةُ، وفيها يتمثّل ُكلُّ تدبيرِ الله في العهد الأوّل القديم: إنّها الشعبُ المختار وهيكلُ الربِّ الجديد علامة حضور الله وسط شعبه.

في الختام ينكشف أمامنا سرّ التدبير الخلاصيّ المحجوبُ عن البشر والملائكة والشياطين. فلن يكفَّ نشيدُ الأكاثِستُس عن تذكيرنا بأنّ عملَ الله الحاسمَ والخلاّقَ في تاريخ البشر إنّما ينمو في الخفاء والصمتِ والعتمة، إنّه غريبٌ عن ضوضاء مجد أهل الأرض وخُيلائهم!

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير